لقضاء إجازة العيد في قريتي المتشبثة بخصبها وبينابيعها دون أن تأبه برياح تشرين، عبر أوعر طريق قد يخطر على بال سيارة يابانية، مع أنها قرية قريبة من المدينة حيث نرى أضواء تعز من على قمم جبالها. المسافة القريبة حسابياً والبعيدة سفراً واقعياً أولى المفارقات التي تجابهك بها "العزلة" الواقعة بين مديرتي شرعب الرونة وشرعب السلام "بني الحسام" المكونة من عدة قرى وأودية تفصلها جبال سامقة كأنها جدران بيت واحد. على أن هذه العزلة، حسب التسمية التي فرضها الأئمة، لعزْل القرى اليمنية عن بعضها، مفارقة أخرى إذ لم تكن "بني الحسام" بمعزل عن المجريات والأحداث والتحولات المعتملة في اليمن والعالم، حيث استقبلت هذه العزلة المنفتحة! جلّ الحركات السياسية والثورية منذ الاحتلال العثماني مروراً بالتيارات السياسية ،قومية يسارية إسلاموية، في النصف الثاني من القرن العشرين وليس آخرها حلبة الصراعات الحزبية بعد تحقيق الوحدة كأنموذج مصغر للحياة السياسية في اليمن. ثم إن الأحداث السياسية والحياة الحزبية بعد 1990 تحديداً بعد انتكاسة حرب 94 قد تكون المدخل الأنسب للحديث عن المهمة الرئيسية من سفري إلى القرية أي البحث عن قصائد "الشعر الدوخشي" كأبرز مدارس الشعر الشعبي التي انبثقت في بني الحسام في عقد التسعينيات ضمن أنواع شعرية أخرى معظمها ساخرة عوضاً عن الأحزاب الافتراضية التهكمية التي تشكلت موازية للأحزاب المتصارعة كحزب الحمير، حزب المفلقين، حزب الدبّيهة. وقد صاحبت هذه الأحزاب السياسية الساخرة قصائد شعرية معبرة عن برامج ورؤى حزبية توغل في التهكم من الانتكاسة الوطنية على كل المستويات سياسية وثقافية وأهمها المستوى الاقتصادي والمعيشي كما الإحباطات التي منيت بها الأجيال السبعينية والثمانينية كذلك الأجيال الجديدة التي تفتح وعيها على مسرحيات الانتخابات والبطالة والاحباطات الوطنية والقومية التي ألجأتهم إلى ابتكار الأحزاب الافتراضية الساخرة والأهم تلك الحركات الشعرية التي ابتدعها شعراء بني الحسام ومنه الشعر الدوخشي. ويسمى الشعر الدوخشي (الشلف) إذ تعني التسمية الأولى الخليط العشوائي غير المتجانس، والثانية مستوحاة من الأحجار الهامشية غير المصقولة في البناء ولذلك دلالة حيث أن شعر الشلف يستخدم الكلمات بطريقة اعتباطية في بناء القصيدة كما تبنى (الديمة) بطريقة تلقائية دون تخطيط مسبق ودون قصدية وظيفية. أتذكر أني استمعت إلى نماذج قليلة من الشعر الدوخشي بعد مغادرتي القرية إلى مدينة عدن طفلاً كتلك المقطوعة المؤسِّسة للشاعر مختار حمود: ليتَ الأسدْ يرجعْ حمارْ يُقاقي/توبازْ من أمسْ صدام حسين عراقي/ثنتين ذرورْ مُحجّشاتْ بحُنْبولْ/ صامين رجبْ وعيّدين بأيلول" في بني الحسام فقط تقوم اثنتين من الذرور"النمل" بتحزيم خصورهن بحيوان زاحف ذي أقدام كثير ثم ما علاقة هاتين النملتين الصائمتين بالأسد الذي صار حماراً بصوت ديك، وبصدام حسين؟!!! وكقصيدة الشاعر عبده الحيدري: جنيتْ من عنقودَ احْلامي/ فراسلْ تًتًنْ/ وزّعتهِنْ يشربين القهوةْ معطّرْ بملحْ/ويدْهُنين بالمفارصْ/ ويطلعين منزل/ يردّين لي الكسب/ وأنا فوق العلبة/ أجدّلْ ثُعَبْ هذه القصيدة رأيت فيها تمثّلات الحداثة الشعرية كتراكيب غريبة وصادمة للمتلقي" عنقود أحلامي" وحيث ينتظر المتلقي أن يجني الشاعر عنباً أو حتى حلوى إذ أن "الفراسل" مقياس وزني للحلوى، ينصدم المتلقي بحقيقية المرحلة أي حصاد أحلامنا المتمثل بالتتن وهي التسمية الشعبية للتبغ!.... أبهرني هذا التهكم الشعري من الواقع برمته إن لم نقل من الحقيقة ذاتها ومن المنطق الذي تزيّف فأراد هؤلاء الشعراء السخرية من الزيف بتداعيات شعرية لا تتحكم بها مواضعات اللغة والمجتمع و ما أفرزاه من تكريسات أدبية وقوانين تجرّؤوا عليها في قرية منسية كما جرؤ رواد الحركة السريالية في باريس الأضواء.. على أن الفن السريالي لم يقترب كثيراً من الشعر مثلما توغل في الفنون البصرية وبعض الأنواع السردية كذلك مسرح العبث. أي أن المدرسة الدوخشية قد تعد من أجرأ التمثلات الشعرية للحركة السريالي التي تعتبر حسب أحد منظريها "فوق جميع الحركات الثورية" فهل كان الشعر الدوخشي فعلاً نقداً للثورات المنتكسة بفعل عقلانيتها الزائفة!. لم أكتف بهذه النماذج القليلة التي وصلتني قلت سأذهب إلى النبع أجمع نتاجاً فنياً أراه من أهم ما أُنتج في الشعر الشعبي. وصلت إلى القرية والأمطار المستمرة ليلاً ونهاراً في غير موسمها أقلقت المزارعين على غرسهم، خلخلت السقوف وتسربت القطرات عبر ثقوب السقوف الترابية إلى منامات أهل القرية الذين واصلوا سخريتهم من المشهديات الغريبة لحياتهم كذلك الطفل الذي قال لي أن الدنيا صحو ومازالت بيتنا ممطرة!، على أن الزمن كان أبرع سخرية وتهكماً من شعراء بني الحسام. حيث وصل بهم إلى اختيار إجازة اختيارية من الشعر وحتى من السياسة التي ملّوا من سورياليتها. جلّهم منهمكون في دوامة البحث عن لقمة العيش، الأقسى أنهم لم يدونوا نتاجهم أو أضاعوا أوراقهم في غيابات ركاماتهم.لكنهم لم يبخلوا عليّ حين رأوا إصراري على جمع النتاج الشعري لأغراض بحثية سأشتغل عليها لاحقاً في تناولات متأنية ليست كهذه العجالة الخاطفة التي لم تتسع لدراسة منصفة لشعراء بني الحسام : محمود عبدالواحد، عبدالحكيم محمد مقبل،عبده الحيدري، محمود عبده صالح، عبدالله محمد أنعم، وضاح عبدالله محمد، فؤاد محمد أحمد صلاح، مختار حمود....نتاج شعري منه الفصيح المواكب لأحدث الحركات الشعرية الحديثة ومنه الشعبي المتميز بمدارسه التي لم أجدها خارج القرية السريالية الشرعبية! ها أبيات من أحدث قصيدة دوخشية لمحمود عبده صالح: حاميْ حَمَا ثلجْ ساقِعْ مثلما البركان/ والطائرةْ في ضروس النوبْ تتقلبْ سافرت شهرين من حدة إلى سعوان/ ودقيقتين بس من طهرانْ لا شرعبْ زعلت لما رأيت العُنصرةْ زعلان/ والبُقري مقلوبْ والدجي لها تسحبْ