توفر السياسة للمشتغل بها الشهرة والمتاعب، فهي وخاصة في العالم النامي، مجال خطر قد يؤدي إلى فقدان الحرية ومصادر الرزق بل والحياة ذاتها أحيانا. في كتابه الحضارة يقول الدكتور حسين مؤنس: 'لا يعرف التاريخ حركة ذات معنى حضاري او اثر في تقدم الجماعة أو الإنسانية كلها الا نهضت بعبئها أقلية واعية' ويضيف قائلا: ' يكون العبء الملقى على كاهل هذه الصفوة باهظا وشعورها به عبئا، وقيامها بتلك المسؤولية نوعا من التسخير وضربا من المخاطرة بالنفس والمال'. ولعل هذا القول لا يصدق كما يصدق على السياسي المعارض في العالم النامي، حيث لم تستقر الأنظمة الديمقراطية بعد، وحيث لا تزال السلطة الحاكمة تستخدم سيف المعز وذهبه. ويأتي الناس إلى الاشتغال بالسياسة من سبل شتى: كالوراثة، أو التحزب، أو العمل الحكومي، أو الصحافة، أو الرغبة الداخلية الملحة لإصلاح المجتمع. كما أنهم قد يأتون إليها رغبة في تحقيق مصالح شخصية ولا تثريب، ذلك أن المجال السياسي لن يبرز فيه إلإ صاحب الموهبة والمقدرة السياسية التي تنمو بالمران والمراس. وينشق السياسيون عن أحزابهم لأحد ثلاثة أسباب حصرا هي: الدافع الفكري النزيه أو الطمع، أو الخوف . ويمكن التمثيل بالدافع الفكري النزيه بانشقاق السناتور الأمريكي عن الحزب الجمهوري مؤخرا وانضمامه إلى صفوف الحزب الديمقراطي. وقد برر ذلك بسيطرة أقصى اليمين على الحزب الأمر الذي يجعل الحزب الجمهوري غير قادر على تمثيل مصالح التيار الوسطي الغالب في المجتمع. أما في بلادنا فلا يوجد مثال لذلك مهما قدح المرء فكره. فالنواب المؤتمريون، الذين أعلنوا مواقف منشقة، يمكن إرجاع مواقفهم تلك إلى نصيبهم من الكعكة أما تآكلا أو فقدانا، وهو ما يدخل في باب الطمع. إذ أن الانشقاق فيما عرفناه من حالات لم يرق حتى إلى درجة الانشقاق الكامل، بمعنى مغادرة المؤتمر إلى المعارضة. وإنما كان تلويحا بالانشقاق. وهناك السياسيون المخضرمون، الذين خدموا النظام منذ بداياته الأولى، والتي شكلت مشورتهم وجهودهم السياسية الجزء الأكبر من ملامح النظام وسيرته التي أوصلته والبلاد إلى الوضع الحالي. وهؤلاء وإن ادعوا أنهم رأوا الأخطاء فهالتهم وأقلقت (ضمائرهم)، وأخذهم الإشفاق على مصير الوطن إلى الانشقاق عن النظام، إلا أن دعواهم صعبة البلع. ولعلهم أشبه بمن وصفت الإدبيات الدينية بأنه يؤمن على مرأى من الموت فيقال له: آلآن وقد غرغرت؟ وهناك المنشقون في الاتجاه المعاكس، من المعارضة إلى السلطة، ومن الواضح أن دوافعهم جميعا لا تخرج عن الطمع أو الخوف أو كلاهما معاً. ولا ينطبق ما وصفناه آنفا عن شريحة كبيرة ممن شغلوا وظائف حكومية ذات طابع سياسي، في ظل نظام وصلوا فيه إلى مراتب عالية، ثم انتقلوا بسلاسة إلى خدمة النظام الذي انقلب عليه وكأن شيئا لم يكن. فهؤلاء هم التكنوقراط الذين وإن اشتغلوا بالسياسة فإنهم يفعلون ذلك لأنها جزء من وظائفهم الحكومية التي يضعونها في المقدمة قبل أي شيء آخر. ويحتفظ لهم المزاج الشعبي بتشبيه قاس ولكنه بليغ، فيقول أنهم كالشبشب الذي يركب على كل قدم. وهو تعبير عن نظرة قاسية تعود إلى ما يصفه المزاج الشعبي عادة بالخيانة. وإن كان في الحقيقة لا يقلل من قيمة السياسي كممتهن للسياسة فقد كان تاليران وزير خارجية فرنسا الذي خدم الملكية والجمهورية وإمبراطورية نابليون ثم الملكية مرة أخرى من أبرز وأبرع وزراء الخارجية في التاريخ. وهو مثال على السياسي المحترف بالمعنى المهني كما أرى. ويشبه الادب والمزاج الشعبي معا المنشقين طمعا أو خوفا بالجرذان التي تسارع إلى هجر السفينة الغارقة، وهو تشبيه عجيب، فما عسى تفعل الجرذان في سفينة غارقة؟ هل ننتظر الموت مع السفينة في قاع البحر؟. ولكن الإنسان ليس جرذا، ويتوقع الناس منه الوفاء لرفاقه ومبادئه . وقد يقبلون منه الانزواء بعيدا عن العمل السياسي، أما انضمامه إلى حزب معاد لحزبه في الوقت الذي يعاني فيه حزبه ورفاقه من المصاعب، فإن أقل ما يمكن وصفه به هو الخيانة والانتهازية، لأنه يضع نفسه في موقع يضر منه حزبه ورفاقه السابقين. وقد برزت في اليمن ظاهرة عجيبة في إطار الوارثين من السياسيين، إذ يتصرفون كأسرة تسعى للحفاظ على مصالحها، فيضعون قدما في السلطة وأخرى في المعارضة. حيث يتقاسم أفراد الأسرة الانتماءات إلى أقوى الأحزاب في السلطة والمعارضة، وهو ما ينظر إليه عن حق إلى أنه التعامل مع السياسة بعقلية التاجر أو البياع المشتري كما يسمى هنا. والذي لا يضع رأسماله كله في مكان واحد فيعرض نفسه للإفلاس. وتلك لعمري (شطارة) يمنية لا أظن أن لها مثيلا في أي بلد آخر.