ما أن يذكر دور المثقفين العرب والثورات العربية التي اندلعت العام الماضي حتى يبدأ الحديث عن تخاذل بعض المثقفين أوفي احسن الحالات ضعف دورهم، فيما يبدو شبه إجماع عن غياب المثقف كأنه في حالة قطيعة مع الجمهور العام، فما سر هذه القطيعة؟ هذه القطيعة ليست حديثة العهد أو مرتبطة بحدث الثورات بل سابقة لها بسبب عوامل عديدة مرتبطة بالبيئة الثقافية في الوطن العربي التي تراجعت كثيراً لصالح مثقفي التوك شو أو الحوارات التلفزيونية التي تتطلب مهارة حضور وليس بالضروة ثقافة حقيقية لمستمع لا يتمهل ولا يهمه الغوص في تفاصيل الحدث، كذلك طبيعة الحياة المادية الاستهلاكية التي فرضت مفاهيم الاعلام الجماهيري التجاري مما ابرز مجموعة من المثقفين اقرب لمغنيي الفديو كليب أي يقدم ويقول ما يريد الناس الاستماع له، فهو لا يتوجه لشخص يتكبد عناء قراءة كتاب او جريدة بل شخص في لحظة خاطفة سوف يقلب القناة التلفزيونية ليستمع لما يريده، من هنا ظهرت فئة جديدة من المثقفين اقرب للمواصفات الاعلانية التجارية لهذه القنوات، وهي فئة بطبيعة الحال ليست بالضرورة مثقفة فعلاً ولا تبني ثقافة حقيقية وتعطي وهم معرفة لدى المستمع ليتناقش الجميع في السياسة دون عمق بل بسطحية شديدة ضارباً مثل بسين او جيم من المثقفين. هنا العلاقة بين المثقف والمستمع علاقة سماعية سريعة ولاتتطلب عمق أو معرفة حقيقية ولا تولد تلك العلاقة الفكرية والعاطفية التي تنتج عن القراءة وتعبر عن حالة وجدانية عميقة تتجاوز دقائق التلفزيون السريعة، ومن هذا المنطلق ازدحم الفضاء التلفزيوني بمثقفين وغير مثقفين يمارسون مهمة التعليق على الاحداث وليس تغيير حالة الفكر والوعي. عبر عن هذه الحالة ادوارد سعيد الكاتب الفلسطيني عندما قال انه توقف عن الظهور في التلفزيون الامريكي لأن او ل سؤال يوجه له، ما هو موقفه من العمليات الاستشهادية والمذيع ينتظر منه اجابة قطعية نعم أم لا. بالطبع جزء من هذه الحالة التلفزيونية هو التعامل مع الاخبار كمسلسل امريكي ممتد لعدة سنوات وله عدة مواسم بشكل يفتقد للجدية ويلجأ للعواطف، هذه الحالة تخلق حالة استقطاب ومنطق من التفكير الثنائي فمن هو ليس معي فهو بالتأكيد ضدي. مع هذه الحالة الجديدة تأقلم البعض وهضمت بعض المثقفين العرب المهمين لصالح آخرين لايرقون لمستوى تصنيفهم مثقفين، وفي جميع الحالات تظل اطلالة التلفزيون لا تقدم معرفة حقيقية وتجعل الشخص اسير افكار سريعة وصور نمطية واستقطابات حادة. اذا اضفنا لهذا العطب الحقيقي في العلاقة بين المثقف والقاريء الذي صار مستمع فقط، عطب الوضع الاقتصادي المتدهور مع كبت الحريات مما دفع الكثير من المثقفين لاحضان السلطة أو مراكز القوى السياسية خشية فقر وسجن، مع تدفق المال الخليجي المستولي على الاعلام ومراكز الدراسات، ليتضح لنا حجم تضاؤل مساحة الحرية الفكرية للمثقف واستقلاليته الضعيفة جدا، فلن نتفاجئ من معرفة إن معظم كتاب واكاديمي العرب المستقلين مقيمين في الغرب أو مغمورين بعيداً عن اضواء الاعلام ومعرفة الناس، يزيد من قتامة الحال إن ضعف المثقف في القدرة على التأثير وتراكم المشاكل العامة تجعله اميل للسلبية في ادائه ونقده، حيث فسر البعض موقف الكاتب المصري محمدحسنين هيكل عن الثورات العربية إنها قد تكون سايكس بيكو جديد أو ادونيس الذي رفض الثورة السورية لأنها تخرج من الجوامع، بإنه عمى الثقافة أي عدم قدرة المثقف على استيعاب متغيرات تجاوزت معرفته المحدودة بزمانها وشخص صاحبها. بوغت المثقف العربي كغيره بالثورات العربية وكانت ردود الفعل لادونيس وهيكل مرحبة ومستبشرة بالثورة التونسية وبداية الثورة المصرية، لكن فيما بعد بدأ الحذر ثم القلق ثم النذير. كيف تغير الموقف؟ ادونيس مثل هيكل في وقت ما استبشروا بالثورة الايرانية وهدير الجماهير العظيم والسلمي، كان وقتها حدث مبهر قبل أن تتحول الثورة الايرانية لثورة اسلامية ويبسط الخميني على انجاز الثورة بأكمله. هنا لحظة الانبهار تلاشت وتحولت ايران من دولة ملكية فاسدة منفتحة على الغرب لدولة جمهورية دينية فاسدة منغلقة على نفسها. هذا الحدث المؤثر في الشرق الاوسط والذي يعتبر اول ثوراته الشعبية الحديثة، بالتأكيد هو هاجس يسيطر على كلا الكاتبين اللذان شهدا هذا الحدث العظيم عن قرب بكل تحولاته، مما انعكس على موقفهما من الثورات الحالية، فبعد استبشار بدأ القلق المستوحى من تجربة الثورة الايرانية وانقلابها الديني هو المسيطر على كلا الكاتبين خشية تكراره، حيث يقترب هذا الهاجس من التحقق وتتضح بقوة مؤشراته في جميع الدول التي شهدت ثورات مؤخراً. تلقي الرأي العام موقف الرجلين بإنزعاج حقيقي، البعض اتهم ادونيس بالطائفية باعتباره ينتسب للعلويين الذين يحكمون سوريا. وفي الواقع اتهام كهذا ابسط ما يقال عنه انه بحد ذاته طائفي لأنه لا يتصور موقف الشخص دون النظر لطائفته وليس طبيعة فكره خاصة إنه يقيم كاتب ومثقف مهم وليس انسان عادي، فمن يعلم موقف ادونيس وعمق إيمانه بالعلمانية كمنطلق اساسي للديمقراطية والحداثة- بغض النظر عن مدى سلامة موقفه- يدرك تماماُ إن موقفه من الثورة السورية يبدو متناسباً مع الرجل الذي يمتلك يقين علماني مطلق، وكرس حياته لنقد المنهج الديني في السياسة. يبدو هذا كله واضحاُ لا لبس فيه لمن يقرأ حتى مقال صغير لادونيس وقراءته للتاريخ والسياسة، اضف لهذا طبيعة ادونيس المقيم في برجه العاجي لمثقف لا يتوجه بكتابته للقارئ العادي ولا يعني به مما ضاعف من حدة موقفه، لكنه سرعان ما تدارك هذا بإدانة العنف الذي يمارسه النظام السوري مطالباً بشار الاسد بالاستقالة استجابة للشعب، مشدداً على فصل الدين عن الدولة وحقوق المرأة ونبذ العنف ورفض التدخل الخارجي. لا يبدو هذا كله متناقضاً مع ادونيس العلماني حتى الصميم والذي لاتعنيه طائفته بشئ، لكن المشدودين طائفياً لا يتخيلون شئ خارج دائرتهم. في حالة هيكل الامر اختلف قليلاً، فهيكل لم يبدي فقط قلقه من التيارات الاسلامية المتصاعدة بل كذلك رفضه الكلي والمتطرف للتدخل الخارجي، بدأ هيكل متحمساً للثورات ثم قلقاُ ثم معتبراً إن ما يجري انقلب لفوضى تستغلها القوى الخارجية. واجهت هيكل اتهامات متعددة من بينها الشخصي حول علاقته بالرئيس عبدالناصر ثم مرة اخرى حول عمل تجاري بين ابنه وعلاء مبارك، هذا كله لا يبدو حقيقي لو حاولنا التحقق منه لكن لو تعمقنا قليلاً في طبيعة قناعات هيكل سوف يبدو الأمر مفهوماً اكثر. هيكل صاحب المشروع القومي الذي قام على اساس الحرية من الاستعمار والتبعية للخارج، والذي نظر لحرب الخليج الاولى بحجة تحرير الكويت بشكل كارثي واعتبرها مستهل العهد الاسرائيلي في المنطقة بعد انقضاء العهد السعودي الذي بدأ بعد اتفاقية كامب ديفيد. هيكل الذي ينظر للأمن القومي العربي بشكل موحد لا يقبل التجزئة كان رفضه لتدخل الناتو في ليبيا ثم التدخل الغربي بشبهة العسكرة في سوريا امر طبيعي بحكم خلفيته الفكرية، هنا هيكل لم يتجزأ في موقفه ولم يعارض تدخل خارجي وقبل بآخر مثلما فعل كثيرون بل بدا شديد الاتساق مع نفسه وطبيعة مواقفه، وحديثه عن استحالة بناء شرعية بتدخل الناتو في ليبيا يفسر كثير مما يجري في ليبيا خاصة بالجنوب. اضافة لطبيعة النسق التاريخي الذي يميز هيكل، حيث يكرر هيكل مراراً عملية الاسقاط التاريخي لما يحدث آلان بإنفجار الشعوب العربية ضد العثمانيين واستعانتهم بالشريف حسين شريف مكه الذي كان عميل للبريطانيين مما مهد لإتفاقية سايكس بيكو، من هنا يتكرر اسقاطه لهذه المرحلة، وهيكل صاحب رأي معروف في إن للتاريخ دروساً يجب فهمها لأنها تتكرر لو لم نتنبه لها لكن مع اختلاف وليس بنسخ ولصق. كذلك موقفه من الثورة اليمنية التي رآها قبيلة تتحول لدولة اكثر من كونها ثورة في تصريح ليس فيه استخفاف كما تصوره البعض، وكأن كلمة ثورة تعني الحصول على الجائزة الكبرى، لكنه توصيف قد يكون اخطأ فيه. اغرقت الفضائيات المواطن العربي بنظرتها الاحادية المتطرفة في أي اتجاه سواء حابي الحكومة أم الثورة دون أي محاولة لتقصي الموضوعية والشفافية في نقل اخطاء قد يرتكبها أي طرف حتى لو كانوا ثوار فلا توجد ملائكة بل بشر يتصارعون بالحق والباطل في ظل ظروف شديدة التعقيد، لذا دور المثقف لا يقتصر على التهليل والمباركة فعلى المثقف أن يحافظ على دوره النقدي الصريح لمعالجة الموقف السياسي بتجرد وليس بمشاركة، وهذا الدور الذي لن يلعبه سوى المثقف دون أن يفوته تفهم طبيعة المتغيرات التي قد تكون جديدة وربما طارئة. هذا الحالة من التوازن تبدو شديدة التعذر في ظل الثقافة الفضائية السريعة والانفعال العاطفي الشديد تجاه الموت الذي تمارسه انظمة مستبدة وفاسدة تجاه شعوب عانت من الظلم الطويل، كل هذا يجعل من المثقف في حالة قطيعة مع المواطن مما يجعل القدرة على تقييم الموقف من المثقف والتفهم من المواطن شديدة الصعوبة. والموقف السياسي الذي لا نقف عليه بتقييم أو تفهم ربما يتجاوزنا ونتحول لأدوات فيه وليس فاعلين.