تتذكر نوال فضل المقحفي، موفدة قناة تلفزيون 'بي بي سي' عربي إلى اليمن إنطلاقة الثورات العربية حيث كانت جالسة أمام التلفاز مع عائلتها تشاهد آخر الأخبار عن الانتفاضات المصرية والليبية وتفكر بما يمكن أن يحدث إذا ما وصل لهيب هذه الإحتجاجات إلى اليمن. لم يمر وقت طويل حتى بدأت الأحداث تتحرك في اليمن، لكن الاحتجاجات كانت في بدايتها في محدودة للغاية. فالبداية كانت من مدينة تعز، ثالث أكبر مدن اليمن والتي يعتبرها البعض الأكثر حداثة. وفي 21 شباط (فبراير) 2011، قامت مجموعة من الطلاب الجامعيين بنصب الخيام خارج بوابة جامعة صنعاء وإنتشر الأمر حتى انها كادت أن تتحول الى مدينة من الخيام يقطنها عشرات الألاف من المواطنيين ومن هنا ولدت ساحة التغيير. نوال المقحفي يمنية الأصل ولكنها نشأت في المملكة المتحدة. تقول نوال إنها ذهبت إلى اليمن في عام 2011 لزيارة عائلتها وتقول 'لم أكن أعلم أنني سوف أشهد أياماً تاريخية في بلدي، فقد كانت الأحداث تتسارع في بشكل مطرد وكانت غالبية اليمنيين مترددة في دعم الثورة في بدايتها ويخشون فشلها، وأضافت: 'كان تباين المواقف واضحاً في كل مكان، أثناء تجولي في شوارع صنعاء وجدت الملصقات واللافتات المؤيدة لصالح، وغيرها كتب عليها بأحرف بارزة: إرحل يا صالح'. في بلد عدد سكانه 24 مليون نسمة يقل دخل اكثر من50% منهم عن دولارين يوميا، ويرزخ 47' منهم تحت خط الفقر، قد يتصور المرأ أن الخيار الوحيد أمام اليمنيين هو التغيير لكنهم كانوا منقسمين. كانت نوال تزور ساحة التغيير في صنعاء كل يوم، و لكن لم تكن جدتها سعيدة بذلك على الإطلاق لأنها من مؤيدي صالح ومن ضمن الذين صوتوا له مرة تلو الآخرى أثناء فترة حكمه التي امتدت لثلاثة عقود. وفي المقابل، ساند جد نوال حفيدته وشجعها على الذهاب الى ساحة التغيير وتأييد الاحتجاجات، وظل يتابع التطورات أمام شاشة التلفاز ومن خلال الصحافة التي لا ينقطع عن قراءتها بشغف وعاطفة كبيرين. وكان الخلاف ينشب داخل البيت بين الزوجين العجوزين حول أمور السياسة يوميا. تقول نوال: 'وهكذا أصبح الحال داخل كل بيت وشارع وحي في اليمن. اما أنا فما زلت لا أعرف في اي صف اكون، ففضولي هو الذي أخذني إلى ساحة التغيير، فتارة أتعاطف مع المتظاهرين وتارة أخرى أستمع لخطب صالح فأميل إلى جانبه'. في بلد تعداده 24 مليون نسمة ويقدر أن به سبعين مليون قطعة سلاح، رفض المتظاهرون السلميون حمل السلاح، ومن العجائب انه لم يكن هناك قطعة سلاح واحدة في ساحة التغيير بصنعاء لتظل الاحتجاجات سلمية. في ليلة الجمعة 18 مارس احتدم النقاش في بيت نوال بعد أن تساءلت: 'ماذا لو أطيح بصالح؟' غضبت الجدة والعمات بسبب الحديث عن مغادرة صالح وقالوا 'انه أفضل ما في هذا البلد'، ولكن والد نوال وجدها عارضا هذا الرأي بشدة. تطورت الأمورفي ذلك اليوم بشكل مأساوي، فأثناء أداء المحتجين صلاة الجمعة تمركز مسلحون على أسطح المباني المحيطة ثم نشب حريق تبعه إطلاق نار لمدة خمس وأربعين دقيقة مما أدى إلى مقتل أكثر من خمسين شخصاً وإصابة العشرات. شهدت نوال تدفق القتلى والجرحى على المستشفى الميداني، وتقول نوال: 'كانت الأمهات تبكي بصوت مؤلم عند رؤيتهن جثث أبنائهم . وكان الآباء يبحثون في هلع عن أبنائهم المفقودين. كنت مصدومة فعلاً، من الذي بوسعه إلحاق هذا الكم الهائل من الألم في قلوب هؤلاء الناس؟' وتضيف نوال: 'منذ ذلك اليوم تغير كل شيء ولم يعد من المتصور أن يقبل المتظاهرون بقاء علي عبد الله صالح في الحكم.' توالت الأحداث، وفي اليوم التالي بدأ الكثيرون من مؤيدي صالح في التخلي عنه وأعلنوا تأييدهم للثورة. انشق قسم كامل من الجيش بقيادة أخيه غير الشقيق اللواء علي محسن الأحمر، وبدأ بحماية ساحة التغيير من ذالك اليوم زعماء قبائل على رأسهم الشيخ صادق الأحمر الإبن الأكبر للشيخ ذائع الصيت عبدالله بن حسين الاحمر زعيم واحدة من أهم عشائر اليمن 'حاشد'. وانهالت الإدانات على صالح داخل اليمن وحول العالم. الوحيد الذي لم يتأثر بهذه الاحداث المأساوية وظل يدافع عن صالح بكل جد وحماس هو الاستاذ عبدو الجندي، نائب وزير الإعلام والذي وقف مع صالح وقوفاً صامداً وأصبح مع بداية الاحداث المتحدث الرسمي للحكومة اليمنية ووجه النظام. تقول نوال: 'لم أصدق عندما رأيت عبدو الجندي يدلي ببيان على التلفاز بأن تلك الجثث التي شاهدتها بعيني كانت جثثاً مزيفة.' وبعد لحظات، طلع ابنه أبوذر الجندي، وقد بدا عليه التأثر الشديد بالأحداث، يتبرأ من أقوال أبيه ويحمل النظام الذي يدافع عنه ابيه المسؤولية عن قتل الثوار. الانشقاق الذي حدث بين عبده الجندي وابنه أبو ذر يعكس فجوة في المجتمع اليمن، وصراعاً بين الذين يعملون جاهدين من أجل التغيير ومن أجل يمن جديد، والطرف الآخر الذي يدعم علي عبد الله صالح بحماس إلى حد استبعاد توجيه اللوم له على أي شيء. حتى الآن لم يجر تحقيق مستقل رغم الدعوات وخصوصا من المدافعين عن حقوق الانسان والمؤسسات الدولية مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لتوضيح ما إذا كان علي عبدالله صالح أو أي من مساعديه مسؤولين عن القتل الذي حدث. وتتسائل نوال: 'كيف استطاع عبدو الجندي القول إن تلك الجثث مزيفة؟ هل بالفعل هو صادق في اعتقاده بأن أعمال القتل لم تحدث؟ ماذا كان رد فعله عندما تبرأ ابنه من أقواله على التلفاز وعلى مرأى ومسمع من العالم؟ وهل كان قلقاً على سلامة ابنه في ساحة التغيير؟' في فيلم 'بي بي سي' عربي والذي أعدته الصحافية نوال 'رجل الرئيس وابنه المعارض'، والذي يستكشف حياة السياسي اليمني عبدو الجندي وابنه أبا ذر. يستقبل الأب فريق 'بي بي سي' عربي في عالمه الخاص، ويقدم نظرة من الداخل إلى نظام الرئيس صالح. أثناء تصوير الفيلم تحدث مفاجأة وتلتقي نوال بالرئيس صالح نفسه ورفاقه وتستمع لآرائهم، وتذهب بعد ذلك إلى مدينة تعز، للقاء الدكتور ابي ذر الجندي ، وقضاء بعض الوقت في ساحة التغيير، لفهم مطالب المعرضة ولفهم أسباب إصرارهم على التغيير. تقول نوال 'طرحت عليهم الأسئلة التي كانت تؤرقني في فترة الانتفاضة في اليمن. كان من المدهش أن نستمع لكلا الجانبين.'