مر عام على مصرع القذافي... مر عام على تذوق الليبيين نشوة النصر الممزوجة بدماء القذافي وأبنائه، لكن الذكرى تمر على الليبيين صامتة كالجنازة، وتباغت الثوار كالفاجعة، نسيت الثورة عيد ميلادها الأول، لا شك أنها غادرت الحب وهي تحاول الوقوف على ذكريات أحداث يوم عاشته في أحشاء التغيير، تتذكر تفاصيل خطة الاستيلاء على مداخل ومخارج (بني وليد) وتستعيد أدق اللحظات التي أعقبت تلقي مكالمة تقول إن موكب القذافي المكون من أربعين عربة محاصر بعربات الناتو التي التقطت مكالمة عبر هاتف الثريا، لتمسك بهذا الخيط الذي يسلمها القذافي وابنه، والجميع يعلم ما تبقى من القصة، فقد روتها كل الشاشات بشيء من البهجة وبقدر من اللذة التي نشاهدها عند الرومان في ملاعب الموت ووحشية الفتك التي كانت أحد أهم برامج الترفيه عن شعب وثقافة كان الدم سيد قلبه وديدن تفكيره، حداً جعل أمريكا وأوروبا حين تنظر إلى أعماقهما لا يمكن للعين أن تخطئ النظر إلى هذا الجذر الدموي الرابض في شكل التحضر الغربي المعاصر. في مثل هذا اليوم قتل القذافي وأطلقت الأعيرة النارية ابتهاجاً، لكن هذه البنادق بعد عام أصبحت صامتة ومنكسة، ومشاعر من يحملونها ذابلة، والثوار لا يجرؤون على الفرح بيوم مصرع الديكتاتور الذي ثاروا عليه.. ما الذي حدث؟ ما الذي يقمع إحساسهم بالسعادة وهم المنتصرون؟ كيف لا يتذكرون مساوئه ويتشفون بضعفه في لحظة إنسانية لا تتكرر في تاريخ البشرية. بظني أن الثورة الليبية بدأت تنضج لتبلغ حد الثورة على نفسها.. إنها تخجل الآن من عارها أن تقتل خصماً أعزل في بيئة حشدت كل أشكال العداء في السماء والأرض في البر والبحر في القبيلة والدولة في المحيط العربي وفي الفضاء الدولي.. هذا الصيد السمين الجدير بالمحاكمة عبر قضاء نزيه كان يمكن أن يكشف أسرار 42 عاماً من المؤامرات والانقلابات والأسرار الإقليمية والدولية والشخصية، شملت أحزاباً ومنظمات وزعماء دول وقادة أخطر وسائل الإعلام العالمية. لقد قتل القذافي لأنه كنز لا تقوى ليبيا على استثماره لخطورة المعلومات، وقتل لأن الناتو والملوك العرب لا يستطيعون احتمال تفشيه على مستوى الرأي العام الدولي. كانت الفضائح ستؤثر على المنطقة بأضرار أفدح من كارثة تسونامي وأعمق من سطحية "أهداف الربيع العربي"، لهذا قتل بمجرد أن وصلت إليه الطلقات والنصال وأعقاب البنادق، والعيون كلها دربت على القتل للزعماء الخصوم. احتشمت الثورة الليبية بعدم الاحتفال وحكيم من قال للإعلام "أعرض عن هذا" حتى لا يتلبس قاموس اللغة السياسية شيء من الإحساس بالإثم والذنب والضعف حين يتساءل الرأي العام الليبي "طيب الراجل قتل فلماذا لا يكون له قبر.. لا احتفال لا قبر.. طيب أيش معنى" والليبي ذكي في طرح الأسئلة ومتأن في الإجابة لكن عاماً من النصر الذابل والنشوة العارضة حتماً ستؤسس لسؤال مهم. هل القتل والإخفاء وطمس معالم إنسان هو جوهر للتاريخ السياسي المعاصر للدولة الليبية، الذي يمثل برنامجاً سياسياً لثورة تزعم أنها ستنقذ الشعب الليبي، وبعد عام إذا بنا نجد أن ما يسمى بالثورة هي من تبحث عن من ينقذها أخلاقيا ويصونها سياسياً، وتبحث لها في وجدان الإنسانية عن مكان يليق بها بين الثورات التي لا شك أن معظمها قد لُوثت يداها بالدماء، ولكنها أبداً لم تكن حبيسة قبر ضحيتها كما هو حال الثورة الليبية. لم أجد عزاءً يليق بثورة كما حدده وصممه ثوار ليبيا في ذكرى قتل القذافي وهي ذكرى تشييع ثورة إلى مثواها الأخير. فما أسرع ذبول زهرات الربيع العربي