ما أشبه الليلة بأمس مصر البعيد، هكذا قلت د. عمار علي حسن وأنا أقارن بين مطالبة الدكتور محمد البرادعي بتهيئة المناخ لانتخابات رئاسية سليمة في ظل دستور يضمن منافسة عادلة وتكوينه "جبهة وطنية للتغيير"، وبين ما جرى عام 1935 على أرض النيل . كان أول ما استرجعت البيان الذي ألقاه صبري أبو علم سكرتير الوفد وزعيم المعارضة بمجلس الشيوخ آنذاك، ردا على خطاب الملك فاروق في 21 يناير 1946، وخاطب فيه السلطة: "سيقولون أتريد أن تردنا إلى عام 1918، والظروف قد تغيرت. لا يا سادة. أنا لا أريد أن أردكم وأرد البلاد إلى عام 1918. ولكني أريد أن أرد البلاد إلى عام 1935.. فرق كبير بين ثورة وبين يقظة، بين غليان الشعور وبين إظهار الشعور. في سنة 1935 أمكن لشباب البلد المثقف أن يلزم إنجلترا بالمفاوضة، من غير ثورة ولا فورة. أمكن للشباب المثقف أن يلزم جميع الزعماء باحترام إرادة الأمة، فكانت الجبهة الوطنية، وكانت انتخابات 1936". لكن هذه اليقظة لم تكن قعوداً عن الاحتجاج، أو اكتفاء بالمقاومة الصامتة، بل إن هذا العام شهد نضالًا مدنياً ملموساً، حيث نُظمت مظاهرات عارمة، تطالب بعودة الحياة النيابية، وكانت كثيفة وقوية إلى درجة أن البعض أطلق عليها "ثورة الدستور". وقد حدثت هذه المظاهرات رداً على تصريح السير صمويل هور وزير خارجية بريطانيا آنذاك، والذي قال فيه: "لا صحة على الإطلاق لزعم الزاعمين، إننا نعارض في عودة النظام الدستوري إلى مصر بشكل يوافق احتياجاتنا، فنحن بحسب تقاليدنا لا يمكن ولا نريد أن نقوم بهذه المعارضة. أجل، عندما أُستشرنا في الأمر أشرنا بعدم عودة دستور سنة 1923 ودستور 1930، ما دام الأول قد ظهر أنه غير صالح، والثاني لا ينطبق مطلقا على رغبات الأمة". واستقبل المصريون هذا القول باستنكار شديد، وخرج المتظاهرون يطالبون باستقالة رئيس الوزراء توفيق نسيم، وكان العمال والطلبة في طليعتهم، وقد اشتبك الغاضبون مع قوات الشرطة، فاستشهد منهم كثيرون على رأسهم عبدالحكم الجراح صديق المجاهد الكبير الأستاذ إبراهيم شكري. وكان هذا الاحتجاج هو قوة الدفع الكبرى التي جعلت بريطانيا تبرم معاهدة 1936 مع مصر. ولا يمكن فهم ما جرى داخل مصر آنذاك بعيداً عن السياق الدولي. فقد كان الموقف متأزماً في العالم أجمع، نتيجة إعادة تسليح ألمانيا، وتفاعل قضية النمسا، وإثارة قضية الحبشة، والحرب الأهلية في إسبانيا. ووجد المصريون أن الفرصة سانحة لإرغام بريطانيا على تقديم تنازلات جوهرية ثمناً لتحالف مصر معها. وهنا يقول الدكتور مصطفى الحفناوي: "لو أن الساسة المصريين قد فهموا وضع بريطانيا الحرج في ذلك الوقت لاستطاعت مصر أن تقبض من إنجلترا الثمن، وأن تحملها على تغير أسلوبها الاستعماري، رضيت أم كرهت". لقد تأثرت مصر تأثراً عميقاً بالأزمة الدولية، وأحست بضرورة تنظيم علاقاتها مع بريطانيا تحسباً لنشوب حرب تتخذ من بلادنا ميدانا رئيسياً لها. وقاد هذا الشعور بالقلق إلى توحيد صفوف المصريين في جبهة وطنية، تشكلت من جميع الأحزاب، بغية التفاوض الناجع مع بريطانيا حول الاستقلال. وكان هذا يتم في وقت لا تزال فيه النخبة الفكرية والسياسية المصرية مختلفة نسبياً حول هوية البلاد. ولعل ما كتبه عبد القادر المازني في أغسطس 1935 يقدم برهانًا ناصعاً على هذا الاختلاف، فها هو يقول: "فشلت الثورة المصرية لأننا أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين، ذلك لأني أؤمن بما أسميه القومية العربية، وأعتقد أن من خطل السياسة، وضلال الرأي، أن تنفرد كل واحدة من الأمم العربية بسعيها غير عابئة بشقيقاتها". لكن هذا الجدل انتهى إلى انحياز للهوية العربية، لا يزال قائما على مستوى الواقع والفعل، وإن بقي الجدل الفكري حول المسألة مستمراً حتى اللحظة الراهنة. لكن الخطوة المغايرة التي شهدها عام 1935، وكانت لافتة، وغير مطروقة كثيراً في الأدبيات، التاريخية والسياسية، التي أنتجتها الأكاديمية المصرية، تتعلق بتعميق اهتمام "الوفد"، الذي كان يقوده الباشوات، بالطبقة العاملة. ففي 11 فبراير 1935 أنشأ الوفد "المجلس الأعلى لاتحاد نقابات عمال القطر المصري"، وكانت هذه خطوة مهمة في علاقة الحزب بالطبقة العاملة. وبين 8 و 10 يناير عقد الوفد مؤتمرا، كان الأول من نوعه، قدمت فيه أبحاث ودراسات تناول بعضها سياسة "الوفد" العمالية، أعدها عزيز ميرهم. وبناء على تلك الدراسات بدأ الوفد يتحرك بشكل مختلف وسط الطبقة العاملة، محاولا أن يخطب ودهم، ويكسب ثقتهم. وحتى عام 1935 لم يكن للوفد برنامج اجتماعي للعمال، ولم يضع أية خطة تشريعية سوى المشاركة في لجنة رضا عام 1927 دون أن ينفذ أي من توصيات تلك اللجنة، بعد أن وصل إلى الحكم في عام 1930. على الضفة الأخرى، خطت الرأسمالية الوطنية المصرية عام 1935 خطوة واسعة وعريضة نحو التمكين. ففي السابع من مايو 1935 توافد العظماء على حديقة الأزبكية، ليحتفلوا مع طلعت حرب باكتمال معجزته الاقتصادية، بعد أن صار لبنك مصر عشرون فرعاً في كافة أرجاء الوطن، وله أربع عشرة شركة، في صناعة الورق، وحلج الأقطان، والنقل والملاحة، والتمثيل والسينما، ومصر للطيران، ومصر للسياحة، ومصر للتأمينات وغيرها. يومها وقف حرب ليدغدغ المشاعر الوطنية للمصريين قائلاً: "نذكر لحضراتكم بكل سرور أن تجربة اللغة العربية، وهي لغة الدولة الرسمية، بل ولغة كتاب الله العزيز الحكيم، قد نجحت نجاحا باهرا في أعمال البنك.. إن تجربة جعل الأسهم في البنك والشركات، اسمية لا يملكها إلا مصريون، قد ظهر أثرها الطيب ونفعها الأكبر". اليوم مرت ثلاثة أرباع القرن على عام اليقظة و"الثورة الدستورية"، وتراكمت عليه أحداث جسام، لكن المشهد يعاد إنتاجه حاليا بطريقة أخرى، إذ يستيقظ وعي المصريين من أجل الظفر بدستور يليق ببلدهم العظيم، والانتصار لحقوق العمال التي تأكلها الخصخصة، لكن في غيبة رجال اقتصاد بعظمة طلعت حرب، ورجال سياسة بشعبية مصطفى النحاس، وطلاب مخلصين مثل عبدالحكم الجراح.