هذا عصر العراء والهواء الطلق. لم يعد ل"الدور والقصور" ستائر تخفي قضايا الحكم. تحولت أحداث التاريخ ومتغيرات الامم جزءا من نشرات البث المباشر. ومنذ اربعة اشهر والانسان حول الارض يعرف سلفا محتويات نشرة المساء: تونس او مصر او ليبيا او ملايين اليمنيين يتبادلون الساحات في صنعاء وتعز، فيما الرئيس علي عبد الله صالح يتنقل من شرفة الى شرفة ومن مقابلة الى مقابلة، ومن موقف الى موقف، مكر مفر، لا مقبلا ولا مدبرا. تجري هذه المرحلة من التاريخ في عالمين، افريقيا والعرب. ففيهما صار الرجل هو النظام، بحيث اذا تعرض الرجل لعارض، او غياب، او تمرد، تخلخل النظام واهتز البلد. فقد نسيت الشعوب مبدأ تداول السلطة، والانتخابات الحرة، وان الحاكم ليس الهاً، وعندما تذكرت ذلك فجأة في تونس، لم تعثر على آلية او مرجعية او برلمان حقيقي تلجأ اليه، فنزلت الى الساحات، في عفوية واندفاع وعزم لا سابق لها في ذاكرة التاريخ.
تشابه في تحرك الشعوب، تشابه في سلوك هذا الجيل من الحكام وفي رؤيته الى نفسه والى شعبه والى بلده. جميعهم بدوا، او تصرفوا، لوهلة، مثل معمر القذافي، لولا تدخل الجيش في تونس ومصر. وجميعهم خاطبوا الناس يتوسلون البقاء حتى انتهاء الولاية، الا القذافي الذي طلب البقاء حتى انتهاء الزمان. وعندما نتأمل سلوك القذافي وسلوك غباغبو في ساحل العاج، نرى نتائج ثقافة واحدة في العالم الثالث: ثقافة الحاكم الذي لعب دورا ما في ابعاد الاستعمار، وتحول هو مستعمرا وطنيا، يمنع عن شعبه الحرية ويقبض على الثروة، ولا يهتم بأعداد الفقراء والمتضورين جوعا. رفض غباغبو حتى نتائج الانتخابات التي جرت تحت سلطته، ورفض مواقف الدول الكبرى منه، وفتح بلده للتذابح.
هذا نمط افريقي، ساد بعد موجة الاستقلال في انحاء القارة. باستثناء ليوبولد سيدار سنغور في السنغال وجوليوس نيريري في تنزانيا بقي كل زعيم في القصر كي يؤمن لنفسه جنازة رسمية. وترك الاحرار بلدانهم للفقر واسوأ انواع الفساد والمرض والمجاعات والتفتت. رموا للناس الالفاظ الوطنية وجردوها من كل حقوق المواطنين. بنى هوفويت - بوانيي اكبر كاتدرائية في افريقيا ثم اكتشف انه ليس عنده من المصلين ما يملأ صفوفها الاولى. وغيّر جوزف موبوتو اسمه واسم الكونغو الى اسماء افريقية، ونكّل بأهله وسرقهم اكثر مما فعل ليوبولد وسائر ملوك البلجيك.
بقي لافريقيا في نهاية المطاف ان تحيا لترى نلسون مانديلا، يخرج بعد 27 عاما من سجن الرجل الابيض (اسوأ الانواع) ويقرر مصالحته ومشاركته في السلطة. وفي آخر ايام ولايته جمع قمصانه المزركشة وخرج الى منزله المتواضع. وفي جملة ما ارتدى القذافي من ازياء وتيجان والوان، جرّب مرة قميص مانديلا. لكنه بدا كما بدا دائما: يلبس شيئا ليس له وثوبا فضفاضا عليه.
اثبتت تجارب نصف القرن الماضي ان لا حل الا بالديموقراطية، التي قال تشرشل انها افضل الحلول السيئة. انتقلت اميركا اللاتينية من مرحلة سوموزا والديكتاتوريات المضحكة المبكية، وها هي منذ ربع قرن تزدهر وتترقى. ليست المدينة الفاضلة، لكنها افضل الف مرة عما قبل. وخرجت اندونيسيا من مرحلة سوهارتو ومذابحه، وهي تتقدم وتزدهر. وكل ما اذكره عن جاكرتا، 1994، خلال قمة عدم الانحياز، ان نهرا من المجارير المفتوحة كان يشق المدينة. وعندما اقام سوهارتو حفلا ختاميا رأيت من الزمرد الذي يثقل اعناق النساء، ما لا يُرى في مكان آخر. وكانت اعناقا جميلة في اي حال. اعناق الظباء وعيون المها، قالت العرب.
تتلاحق المتغيرات امامنا ولا نجد الوقت للتأمل فيها. لم يكن شيء متوقعا من كل هذا، عندما اشعل بائع الفواكه محمد بوعزيزي النار في اسماله البالية. عربة خالية وامعاء خاوية وام حزينة وزمرة تنهب البلد، فماذا سيكلف محمد سوى زجاجة بنزين التي عرّج على المحطة لشرائها؟
لم يكن يدري انه سوف يشعل النار في ثوب الامة، فتتذكر انها لا تزال تعيش عند منتصف القرن الماضي، ببذلته، بتعابيره، وباذاعاته، فيما الزمن تجاوز التلفزيون، ثم تخطى الانترنت، وصار في امكان المرء ان يحمل هاتفه وكاميرته وتلفزيونه وآلة الحساب ودفتر العناوين وحركة البورصة وآخر الاخبار العاجلة ومقالات الصحف وألبوم العائلة والاغاني المفضلة، في آلة واحدة يضعها في "سيلة" سترته. والقذافي يسمح لليبي بصحيفة واحدة فيها خطب الاخ القائد ومقتطفات من "الكتاب الاخضر". لا سابق لما يجري. الانظمة الجديدة تقرر صياغتها في الميادين. الدول (الكبرى) تتدخل علنا، عسكريا كما في ليبيا، وسياسيا كما في ساحل العاج، لقلع حكم واقامة آخر. والامين العام للامم المتحدة يتدخل مباشرة، ولو دون جدوى، في تشكيل الحكومات واسقاط الانظمة ويتمنى لنا عبر مندوبه في لبنان ان نسرع في تشكيل الحكومة، ناسيا اننا ما زلنا نبحث في الدستور عن وظيفة رئيس الوزراء: هل هو يكلف ليؤلف حكومته، ام يكلف ليبصم عليها؟
نتجه الى ان نصير مثل اميركا اللاتينية. معمر القذافي يبحث عن ضمانات انه لن يحاكم مثل حسني مبارك ولن يطارده الانتربول مثل بن علي. وربما من الشروط ان تترك له موازنة تفي بكلفة حراسه من النساء وممرضة اوكرانية ممتلئة قليلا. كتبت في السبعينات من كييف كيف شاهدت امرأة تحمل حجارة البناء، مثل مواطني المرحوم حبيب عبده. ولم اكن ادري انه سيأتي يوم تتفجر فيه مكامن اوكرانيا عن ممرضات ليبيا وبدور المعاملتين.
منذ مجيء القذافي وثورته وكتابه الاخضر، تغير ديغول في فرنسا، ومارغريت تاتشر في بريطانيا، ووصل افريقي الى البيت الابيض، وصنع عامل سابق نهضة البرازيل، وتهاوى جدار برلين، وتغير في الاتحاد السوفياتي سبعة رؤساء ثم انهار، وفي الصين غاب ماو ودنغ، وفي الهند زالت اسرة نهرو. والاخ العقيد قاعد. لا زعيم الا هو. والاخ في اليمن قاعد. ورئيس مصر نقل مقره من القاهرة، التي كانت تحرك العالم الثالث، الى شرم الشيخ، حيث الهواء اقل تلوثا، ولا ضوضاء ولا من يلح في طلب السقف والرغيف.
لن يعود ذلك ممكنا بعد اليوم. سواء تطلعنا الى التغيير كتدبير خارجي او كعربة فواكه عفوية، لم يعد البقاء في 1950 مقبولا او لائقا، فيما يخرج من الجامعات كل عام عشرات الآلاف من العرب، ليجدوا في انتظارهم البطالة والسقم والمستقبل المبدد. لا يدير هذا التغيير ثوريون مثل روبسبيير، الذي يقضي امراضه النفسية في قطع الرؤوس، ولا تلتهب صدور المغيّرين لمفردات مستعارة من خطيبنا المفوه فلاديمير ايليتش لينين وآداب القرن التاسع عشر، بل يتبادل هؤلاء رسائل نصية قصيرة ويستخدمون وسائط ليست من زمني ولا اعرف عنها سوى اسمائها الغامضة، "فايسبوك" او "تويتر" او اشياء من هذا القبيل.
نزل ثوار 1968 خلف جان – بول سارتر وبرتراند راسل وقصائد بابلو نيرودا واغاني جوان باييز وبوب ديلون. حركتهم الافكار والقضايا. وحملوا معهم بقايا تروتسكي وغليان ماو. ولكن ماذا يحمل ثوار 2011؟ يطالبون بالحرية التي طالب بها الفرنسيون قبل ثلاثة قرون. وبأن يقبل غباغبو نتائج الاقتراع بدل ان يدفع بالبلد الى المذابح. وليس في كل ثورة ليبيا خطيب واحد. الخطيب الاوحد منذ 42 عاما لم يتغير. وهو ينتمي الى زمن، لولا دمويته وارهابه وظلمه، لكان يصلح مسلسلا في "ديزني".
مشكلة هذه الثورة انها لن تجد غدا من يفلسفها ومن يكتب لها فصولا درامية. لا اصول لها عند ماكسيم غوركي ولا عند تولستوي وفقرائه. لا وجوه فيها ولا غيفارا. ملايين الوجوه دفعة واحدة، وخلفهم "ابل" و"نوكيا" والكورية "سامسونغ". ووسط كل ذلك نتذكر السيارة التي عرضها العقيد في ذكرى الفاتح العظيم وقال انها من تصميمه خاص ناص. وهي تشبه سيارات "الفيراري" ولا احد في ليبيا يملك ثمنها سوى ابنائه. بدأ ظهوره على البشر بالقول انه راع من الصحراء (تشبها بالانبياء) وانتهى بتصميم سيارات السباق. وبدأ يريد حل مشكلة البشرية، والآن يريد تأمين الرحلة الى كراكاس. دمره عصر العراء.