تقترن لفظة التاريخ عادة عند المثقفين وأحيانا عند غيرهم بألفاظ متعددة كأن يقال في ذمة التاريخ, أبواب التاريخ, التاريخ لا يرحم,وحكم التاريخ, وعند البعض الآخر يحدث الخلط بين لفظتي التاريخ والتأريخ,وفي تعريفهما أشار قسطنطين زريق إلى لفظة التاريخ بالألف اللينة للدلالة على أحداث الماضي ووقائعه , والتأريخ (بالهمز) للدلالة على دراسة الماضي وتدوينه أي على علم التاريخ إن موضوع التاريخ هو تسيل التجربة الإنسانية , ويحتل علم التاريخ في فروع المعرفة الإنسانية مكانا متقدما , وهناك من لا يعترف بالتاريخ كعلم لأنه لا يخضع للتجربة, واستبعد ابن خلدون لفظة العلم عن التاريخ وذكر كلمة الفن بدلا عنها عندما قال : " ..فإن التاريخ فن من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال…… إذ هو لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول……وفي باطنه نظر وتحقيق" إن الإدراك الصحيح للتاريخ ينتهي إلى الحكم فيه,أي التمييز بين صحيحه وفاسده ,بين ماله وما عليه . وعلى هذا فإن الموقف الذي نتخذه من تاريخنا لا يكون صحيحا كاملا باعثا على العمل المجدي لحاضرنا ومستقبلنا إذا لم يؤد بنا إلي الارتفاع فوقه والحكم في عناصره التي يجب أن نحرص عليها ونحييها ونستوحيها ,وتلك التي يجب أن نفلت منها ونثور عليها ونتخطاها. لهذا يتقمص المؤرخ المدقق كل عناصر المحكمة من الدفاع (والهجوم) وخلال هذه المرحلة يسعى ما استطاع السعي لجمع المعلومات كي يتسنى له رفع لائحة الاتهامات ثم يتداخل مع نفسه لينطق ما يراه حقا وصوابا دون مواربة , ولعلها من هنا أتت عبارة (التاريخ لا يرحم), وبينما القاضي النزيه معني أكثر بتحقيق العدالة, فإن المؤرخ القاضي معني أكثر بمعرفة الحقيقة والنطق بها دون أن يلتفت لمشاعر الغاضبين أو المسرورين,ودون أن تؤثر في مشاعره ذاتها, وإذا كانت الحقيقة تخدم العدالة فإن العدالة تستوجب قول الحقيقة . على أن بعض الناس قد يجد في العبارة السابقة (التاريخ لا يرحم) من القسوة بحيث لا تخدم المعنى العميق لها., وغاب عنهم أن أصل العبارة هو التذكير للناس المؤثرين في حاضرهم – سوا كان إيجابا أو سلبا – والتنبيه لهم بأن ما هو سر اليوم في حياتهم لابد أن يكون مصيره إلى العلن في الغد وأن الإنسان يتبوأ مقعده في صفحات التاريخ من حيث اختياراته في حاضره. وللتاريخ سلطة في إدخال من يشاء طوعا أو كرها في مجاله وآفاقه, لكن من أبواب مختلفة المذاق والمعنى, ومتعددة المقاسات . ربما يقول قائل إن التاريخ أدخل من أوسع الأبواب من لا يستحق وأخرج من أضيق الأبواب من يستحق الدخول, والرد على مثل هذا الأطروحات تكون بدعوة الناس إلى التمييز الذكي بين التاريخ وما هو محسوب عليه, والتدقيق في تحديد أنواع (القضاة) لمعرفة الأصل من التقليد . سيقول الناس الكثير وهكذا سيكتبون وقد ينجح المضللون مدة من الزمن, ولكن بعد أن تضع الحقيقة أوزارها وتنطلق بأمان من ذمة التاريخ وفي ذمته , لابد لها أن تظهر كالنور. وفي قوانين التاريخ لا تسقط التهم بالتقادم ، والمؤرخون في حالة استنفار دائم للنطق بالحقيقة عندما يحين أوانها لتتحول إلى عدل ورحمة للمظلومين وسيف من صدق على الظالمين . وعلى هذا فإن كل شعب حي مدعو في كل وقت إلي تقييم تاريخه واستخلاص تراثه ,وعملية الاستخلاص والتقييم هي عملية مستمرة لا تتوقف ولا تنتهي مادام العقل يستمر في طلب الحقيقة ومادامت حقيقة الماضي تنكشف له بدرجات ومراحل متتابعة وبوجوه جديدة.