وإن بدا التلاحم بين المنطوق العقلي والمنطوق الشعري ليس لصالح الأول من حيث الكم، فإن في شدة التوجيه والقصدية ووضوح الهدف في المقولة النثرية، وحرص الشاعر على أن يموقعها في نقطة مهمة من غلاف الديوان، وأن يضم فكرتها والشعر ديوان مستقل ربما لأول مرة في تاريخ تدوين الشعر العامي الحضرمي ما يؤكد على تجذر تلك الحالة المؤسية في منطلقات الشاعر التي بدت غير مشوبة بالضبابية. وإذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى وهي أن الشاعر أنجز إشارته التقديمية بعد اكتمال الديوان وإعادة تفحصه، فإن النتيجة واحدة في دلالتها على التداخل بين النثري والشعري وفي تأكيد تلك الحالة التي يعد الديوان أحد تجلياتها الجديدة وقد تراكمت عبر مئات السنين. إننا في ديوان الجريري (بخيتة ومبخوت) أمام جزء يسير من نص ثقافي كبير هو الشعر العامي الحضرمي المتواصل عبر مئات السنين بترابط وثيق في هذا المنحى والتنويع عليه حيث يعمل على تكوين وترسيخ صورة معينة عن حضرموت، ويصير فاعلا في تكريس تلك الصورة في ظل ازدياد الأشعار على هذه الشاكلة وسريانها في نسيج الوعي الشعبي لاسيما أن يتعاورها شعراء كبار يعطونها هذه الفاعلية من التأثير، حتى يمكن تسمية ذلك الشعر بالمنطقة الثقافية الواسعة التي تلاحمت والتاريخ لا من حيث قراءة النص في إطار خلفيته التاريخية ولا في استخدامه للإفصاح عن الحقب التاريخية، وإنما من حيث إن النص والتاريخ منسوجان ومدمجان معا كجزء من عملية واحدة (ينظر النقد الثقافي- الغذامي ص17) تعمل على تثبيت أنساق سلوكية معينة سواء في تفاعل الذات مع محيطها، أو التشكي منه، أو إحساسها بالانسحاق فيه، أو التبرم به، أو حتى التشاؤم منه، حتى تتحول الذات الاجتماعية كلها ربما إلى وجود متنوع للألم تكاد تفر منه ولا تستطيع لكونها مأخوذة بروعة هذا الشعر والابتهاج به. الشعر هو الصانع الجمالي لتلك الأنساق ونحن محكومون به أو واقعون تحت تمريراته، وللثقافة أساليبها ((في صياغة مستهلكيها وفي تسخيرهم كذوات برغبات وقيم محددة، هذا ما يسميه ألتوسير بالاستجواب وهو يشير إلى ما تفعله الإعلانات الدعائية –مثلا- حينما تخاطبك كإنسان ذي خصوصية بوصفك مستهلكا تتحلى بذوق نوعي متقدم وعبر زخ هذه الصفة فيك مرة ومرة أخرى تصبح أمام نفسك وكأنك ذلك المصنف بتلك السمات)) (الغذامي ص18-19) فلا وجود لنسق ثقافي بمعزل عن صانع ثقافي كبير يبني عددا من التصورات في أذهان مستهلكيه وإن كان يمكن الافتخار به لثرائه كالشعر. ولعل ثمة درجات أو مستويات لتحقق الألم تتعين بمدى الدخول العملي فيه والانكواء به، ولكنه كما يبدو من خلال الشعر مجال متماثل ينضوي في إطاره عموم الأفراد بفعل الصانع الثقافي- التاريخي الذي ينتشي بتجدد النكسات السياسية والأخلاقية، يقول الجريري: خرج ذا فصل والثاني بخيتة تدور يا عرب كزمة لمبخوت وصبحت في البلد حرمة غتيتة إذا قبلت تشوف الكل برطم وهي تشقي على سقلة تيتم خذا ماله وصي بالخس والتم وهضلت بعده بخيتة ومبخوت ولا ذاقوا من المصروب فرتوت أخذ بقلاتهم هي والسقاطر ولا خلى لهم حتى المثامر وحملها مواتر في مواتر وشعق خط فيه المال مثبوت وشهدوا له وذرعوا الأرض بالفوت
__________________________________ بخيته ومبخوت قراءة ثقافية ( 2 ) بخيته ومبخوت قراءة ثقافية ( 1 )