يقول الجريري: خرج ذا فصل والثاني بخيتة تدور يا عرب كزمة لمبخوت وصبحت في البلد حرمة غتيتة إذا قبلت تشوف الكل برطم وهي تشقي على سقلة تيتم خذا ماله وصي بالخس والتم وهضلت بعده بخيتة ومبخوت ولا ذاقوا من المصروب فرتوت أخذ بقلاتهم هي والسقاطر ولا خلى لهم حتى المثامر وحملها مواتر في مواتر وشعق خط فيه المال مثبوت وشهدوا له وذرعوا الأرض بالفوت تأخذ هذه الأبيات في تعميق الاستلاب في حال من التداعي مع الأشعار السابقة كوحدات متماثلة يترقى بعضها عن بعض ويتفاعل بعضها مع بعض مشتغلة على جهة واحدة هي أزمة حضرموت، فكلام الجريري لا يمكن فهمه بعيدا عن التوجيه الذي أسسه الشعر السابق بحيث يتشكل نمط من الإدراك يغدو ملمحا بارزا في وعي الناس تجاه بلدهم، وهو نمط من الوعي الثقافي السلبي كونته صور نمطية ثقافية منها (اللولب المفروت) و(المنيحة) و(البقرة الحلوب) بل إن الصورة تذهب في غاية الاستلاب عند أحمد عبود باوزير عندما يغدو القوم ماسكين بقرون نعجتهم لتمكين الآخرين من حلبها كيفما يشاؤون، من غير أن يجعلها الشاعر سارحة في فضاء الأمان فاختطفها الآخر غفلة، أو اغتصبها عنوة رغم قوة دفاعهم عنها. يقوم هذا الشعر بتفعيل الألم من خلال تكرار معاني السلب والنهب والفوضى واللانظام في إدارة البلاد وعدم توحد أبنائها على مسك زمامها بقوة في إطار توجيه ثقافي يتولى إدارة الألم ويتدخل في صناعة رؤية الناس لذاتهم وواقعهم بحيث إذا أثير الحديث عن وضع حضرموت تآسف الجميع وتواجعوا قبل التساؤل عما يجب فعله وصناعته، لاسيما في ظل إثارات متكررة يستوعبها الصانع الثقافي ويعيد إنتاجها مستفيدا مما تراكم سابقا، الأمر الذي يمكن معه التأكيد على أهمية إنتاج فضاءات ثقافية جديدة لإجراء التغيير ستظل بدورها بحاجة إلى الترسب زمنيا كوعي ثقافي، لا الوقوف عند وصف الحالة وتكرارها والتنويع عليها. وعند الجريري لم يدع الوصي الجديد لحضرموت وأبنائها حتى كسر الخبز الجافة أو أعذاق النخل اليابسة بعد أن نهب عيون المال وعمد إلى تمزيق أوراق الثبوتية وشهد له المبطلون بالتملك، واقتسموا الآرض، وتنكروا لحضرموت وتجهموا في وجهها في إشارات نصية أوغلت في رفد ذلك النسق الثقافي بتقديم تلوينات وثيقة الصلة به مستقاة من احتراقات الواقع المعاصر. ولعل في المقاطع الثلاثة المستدل بها سلفا للشاعر ما يشير إلى هذه التنويعات: من تعب بخيتة وانحناء ظهرها، وأكل لحمها، فلم يبق منها غير عظام بارزة مخيفة، ترفع صوتها طويلا بالترثي لحالها وحال أبنائها فلا يصغي لصوتها أحد، بل يوغلون ضحكا من جوعها ومن ثوبها المرقع، فضاع صوتها في بئر برهوت حيث أرواح الكفار وغائلة الجن، وقمر لولبها شاخص باعوجاجه منذ أن أعلنه بو ريا.. لم تلق المساند والمعين وإن أكرموها فبكسرة خبز صغيرة.. يعبث بها الزمن الطويل، وتبكي من ثقله عليها، وتغتاظ.. هذا التنوع جاء من حسن تفاعل الشاعر مع ذلك النسق الثقافي المؤسي واستيعاب تمثلاته، فضلا عما أضفاه عليه من طاقته حتى يفيض الألم من مصادر كثيرة أشبه بالعيون الثرة الصغيرة النابعة هنا وهناك معززة لواقع الوجدان الشعبي وما يلهج به ويترشح عنه، فليس هذا النسق في مجموعه سوى قصائد وأبيات يؤديها شعراء كثيرون في اللحظة نفسها، كما تؤديها نماذج ثقافية أخرى، وتأخذ من ذلك قوة حضورها حتى ليعد العجز عن أدائها إخلالا بشرط من شروط التفاعل النفسي- الاجتماعي، ليس في هذه الظاهرة بل في أي ظاهرة أخرى اكتسبت صفة النمطية، الأمر الذي يضع أمام عملية التجاوز عراقيل ليست بالسهلة، ولكنها ليست بالمستحيلة، يجدر من الآن وضع لوازمها الثقافية.