تظل الأوطان راسخة في وجداننا ، عميقة الجذور في قلوبنا . قد نحزم حقائب سفرنا ونشد الرحال، إلى بلدان أخرى ونقرر ألا نعود إليها ثانية، بل ربما تذمرنا من الأوضاع فيها ، وغضبنا من أنظمة حكم زائلة ظناً منا أنها الوطن. لكن الحنين يدفعنا دائما للعودة وما أحلى الرجوع إلى أحضان " الوطن " رغم المعاناة .. أخبرني شاب جامعي – فضل عدم ذكر اسمه – قضى سنين عددا مغتربا في أرض الحرمين الشريفين ، بأنه عندما عاد في زيارة إلى حضرموت وجد أهله والأصدقاء بانتظاره في "مطار الريان الدولي" هذا المطار الذي استبدل اسمه باسم آخر كما هو الحال لكثير من الأماكن المطبوعة في الذاكرة ، ومع ذلك فإن الأسماء البديلة لم تلغ الأسماء الحقيقية التي ترسخت وحفظتها الأجيال ، جيلاً بعد جيل ، ذرف دموع الفرح وهو يشاهد بأم عينيه ، هؤلاء الذين غاب عنهم كل هذه السنوات وهم يحملون له مشاعر لا يستطيع وصفها في تلك اللحظة التاريخية من حياته . عاد بذاكرته للوراء قليلا وشريط سينمائي يمر من أمامه وهو يحمل حقيبة سفره وفي هذا المطار مودعاً هذه الأرض قال عند مغادرته هذا الوطن ( لن أعود إليك مرة أخرى..) كثيرون كانوا مثله يرددون هذه العبارة ، ولكنهم مع الحياة في الغربة أدركوا بأنهم لا يقوون على الفراق أو كما قال الشاعر خالد عبدالعزيز " بعد المكلا شاق ".. ولعلني هنا أضيف ما قاله شاعر آخر : يا ليلةً بالمكلا فوقَ شاطئهِ أوحت لقلبي أمانيهِ وذكراه .............. سحرٌ وزهرٌ وأحلامٌ محببةٌ في منظرْ البحرْ حينَ البدرُ يغشاه ……………………………… ها هو يعود في نهاية المطاف إلى محبوبته الجميلة " المكلا " ليشم نسيم بحرها ، ويمشي في أزقتها وحواريها ، هذه المدينة التي عاش فيها طفولته وصباه وشبابه وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي ، التقى بأصدقاء كانت تربطه بهم زمالة دراسة ، وذكريات جميلة لا تنسى . بآهات حرى قال : (أتمنى أن أُدفن هنا بين ثنايا تراب الوطن ، الذي أحببته برغم قسوته ) ،ثم أخذ حفنة من التراب بيده ، ثم أضاف قائلاً ( أريد أن أقدم شيئا للشباب هنا ، وأفتتح مشروعات تنموية ، وأركز على الجانب التعليمي ،كبداية أولى ) وبالفعل اجتمع مع ابن عمه الذي أنشأ معهداً قبل سنوات عديدة وهو يعمل بجد وبلا كلل ،هذا الشاب حفر في الصخر كي يصل إلى ما وصل إليه، تلقى تعليمه في المانيا وتخرج بشهادة الماجستير .. شكلا ثنائياً رائعاً ، حيث أقاما شراكة وكنت الراعي لاتفاقهما والمحفز لجهودهما وداعماً لهما هذه الخطوة …. فاشتهر المعهد فوق شهرته وحظيت المؤسسة الحاضنة بالتقدير لمكانتها.. وأصبح الحلم حقيقة بارزة للعيان ،.. ومن يلج المعهد سيجده خلية نحل تعمل بشكل متواصل وطلاب العلم من الشباب يؤكدون حضورهم الدراسي ، وهي الأمنية التي يتمناها كل غيور على بلده . عندما سألته : كيف رأى الغربة ؟ .. قال (شغلتني الحياة في الغربة ، ولم أعر اهتماما للوطن ، وظللت مُديراً ظهري عنه ، غير راغب في تذكر مآسيه المتلاحقة ، ولكنني عرفت بأن مآسي الغربة أشد ضراوة على عقلي وفكري ، بل أجد بأن قفصي الصدري ، يضيق كلما مرت الأيام والأسابيع والشهور والسنين وأنا أتلظى نيران اغترابي عن مراتع صباي وشبابي ، فيشدني الحنين إلى وطني شدا عنيفا) . هكذا عرفت هذا الشاب مكافحاً في سبيل تحصيله العلمي .. تخرج من جامعة الإسكندرية ثم أكمل دراساته العليا في كندا ، وقف إلى جانب والده العصامي الذي كون نفسه من الصفر حتى أصبح من رجال الأعمال الذين يشار إليهم بالبنان ، مثله مثل من غادر من أبناء قبيلته الذين تضرروا من حكم الحزب الواحد الشمولي إبان العهد الاشتراكي ، ونحن لا نعلم ولكن الله يعلم.. فقد يكون الخير كامنًا في الشر …وهكذا هم الرجال تصقلهم الأحداث كما تصهر النار الذهب فتظهر لمعانه . كم نحن بمسيس الحاجة إلى أمثال هؤلاء الذين يعودون إلى أوطانهم وهم محملون بالخير له ، ناسين أوجاعهم ومآسي غربتهم ، ليحققوا شيئا لأمتهم التي ينتمون إليها بكل ذرة من كيانهم ..