اشتغل الفقيد المؤرخ عبدالرحمن عبدالكريم الملاحي رحمة الله عليه معلماً طيلة فترة الخمسينيات من القرن الماضي بمدارس الحضر والبدو بالمدن والريف من بلاد حضرموت ، واعتلى منصب المدير في كثير من هذه المدارس ، وهكذا أجتمع بالقاطنين في بلاد المدينة والريف وطالع عن كثب عاداتهم وتقاليدهم ومناسباتهم ، وسمع منهم الروايات والقصص ، وعرف اعرافهم المحلية المتوارثة وتأمل نواميسهم ومقولاتهم وتتبع مجريات ماكان سائداً واندثر ، وكان شغوفاً محباً لأخبار هذه المجتمعات ، متمتعاً بجمال الطبيعة وقد حباها الله بسحر النخيل والمياه العذبة الجارية والواحات والاودية الخضراء ، وتعد هذه المرحلة محطة اخرى في حياته السمحة ، فترة اكتسب خلالها من المعارف الكثير ، عن العادات والعلاقات والمنافع والنزاعات السائدة بهذه المجتمعات الحضرية والبدوية ، وربما هنا تشكلت البواكير الأولى لاهتماماته اللاحقة بعلم الاجتماع وبعلم التاريخ وبتاريخ التراث الشعبي وبالتوثيق للمحليات من أخبار العادات والتقاليد والملاحة البحرية وفنون الشعر والرقص والمسرح الهادف ، ولاهتماماته بالنشاط الثقافي والاجتماعي والرياضي ، وتعد هذه الفترة العتبة المضيئة من سجل وافر بالعطاء أضاء مالحق من اهتمامات جليلة لفقيدنا الراحل خلال ماتبقى من فترات حياته ، ، وغدت نتاجاته الموثقة عن حضارة مجتمعات حضرموت وعن التمدن الاجتماعي للحضر والبدو ، من بين اهم المراجع التاريخية لدراسة المجتمع الحضرمي أدبه وتراثه وفنونه ومعالم حضارته . ونجد انه من الواجب أن نجمع هذا العطاء الثمين في مكتبة خاصة باحدى المؤسسات العلمية أو الاكاديمية ، وجامعة حضرموت أولى بالأمر تمهيداً وتنضيداً وعناية ، لتاتي بعد الجامعة مؤسسات الابداع المجتمعي كالاتحادات الأدبية والثقافية والجمعيات الفكرية والتاريخية ، ففي هذا المبتغى متى تحقق قدر من الوفاء الجميل ، ناهيك عن مردوده المعرفي الغزير للمهتميين بتاريخ حضرموت وحضارته وبتاريخ التراث العربي بالمجتمعات العربية . المجاورة . عُرف عنه رحمة الله عليه قدرته الفائقة على تفعيل أي نشاط ثقافي منوطاً بتنفيذه ، فهو من القلة المتعلمة الواعية الذين يمتلكون الهمة وعدة التدبير ولوازم الترتيب وطيب الخصال ، وليس في هذا غرابة كونه من خيرة مثقفي مجتمعه ، ففي الشحر تبوأ مركزالصدارة مبكراً عبر جملة من النشاطات الثقافية ، وله في المكلا صدى مسموع وفي عدن منذ فترة السبعينيات من القرن الماضي كان نشاطه الثقافي جديراً بالاهتمام والتكريم ، فهو من تولى الاشراف العام على المراكز الثقافية عام 1973م ومن منصبه هذا بديوان وزارة الثقافة والسياحة بعدن أشرف على المشهد الثقافي السائد ، وادار عجلة الثقافة بجهود مضنية صادقة رغم شحة الامكانات وقسوة الايديولوجيا الدخيلة حينها . واتذكر مساهماته في جمع وتدوين التراث والموروث الشعبي عام 1974م ضمن عضوية لجان التنقيب عن الآثار والتراث بحضرموت ، وتألق مشاركاً بجدارة عام 1975م في نهوض المشهد الثقافي بحضرموت ، عندما تولى مسؤلية إدارة فرع وزارة الثقافة بحضرموت ومقره بالمكلا ، كما انه ومن خلال رئاسته لفرع اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بحضرموت للفترة 1977 – 1981م نجح في تعضيد النشاط الادبي وبلورة ملامحه ، في حين كان لفقيدنا الراحل نشاطه المسرحي المتميز ، وظهر متألقاً ككاتب مسرحي بامتياز ، نجد هذا في كثير من اعماله المسرحية والأدبية . كما ان لفقيدنا الراحل مشاركاته الخارجية ففي عام 1973م وتحديداً في مايو ترأس الوفد الحكومي المشارك في مؤتمر المسرح بالوطن العربي بدمشق ، وقد شارك ببحث رصين بالمؤتمر عن تاريخ المسرح باليمن ، وحظي البحث باستحسان وتقدير من بين البحوث التى تناولت تاريخ المسرح العربي وتأثيره الثقافي الاجتماعي بالمجتمع . وللمثوى بلاد الشحر موطن الزاد والمقصد وغاية المراد في حياته خصوصيات وذكريات ومشاعر فياضة ، بلاد البخور والسمك المجفف ونسيم البحر العليل ، بلد المقاومة والتراث الحرفي الجمالي وملتقى الاسواق التجارية وبوابة حضرموت إلى الشرق والغرب ، لقد مضى به العمربين أهلها صديقاً وحبيباً وخليلاً ، موانساً ومستأنساً وحميماً ومتعاضداً ، لايكل له عضد ولايبخس لاجلها جهده ووقته وقلمه ، فالشحر منها أخذ وإليها أعطى ، وبقدر أهل العزائم القوية شيد بمعية مفكري ومثقفي الشحر الكرام مداميك عدد من الفنون التراثية ، وصار المسرح في ترسيخ بنيانه ومضاعفة عطائه من بين جُلّ اهتماماته خلال الفترة مابعد عام 1980م ، حينما أوكلت إليه مهمة إدارة مكتب الثقافة بالشحر، وظل أكثر ولعاً بالمسرح والنهوض به حتى بعد إحالته للتقاعد عام 1992م ، وقد جمع بعد ذلك بين الاهتمام بالمسرح كلما كان ممكناً ، وبين الاهتمام بكتابة الابحاث التاريخية والتأليف والمشاركات العلمية بالمؤتمرات والندوات وإدارة المنتديات الثقافية . كان رحمة الله عليه من الذين يجيدون تعقب الظاهرة الثقافية فهماً ومنهجاً وتفعيلاً ، ويعد من القلة الذين يمتلكون الفهم الواسع للظواهر الثقافية ورصد مجالاتها وتنوعها ومردودها الايجابي . الأستاذ الفقيد الملاحي متجدداً فكراً ومنهجاً ورؤيةً ، لهذا نظر إلى كثير من مفاهيم الحياة والفكر ومن بينها التطلعات الوطنية ، نظرة اللبيب الفاضل الحليم ، مستفيدأ من تجاربه ومن ثقافته التراكمية ومن قوة ادراكه لما يعتمل من تطور ونما ، لهذا تعد مناقشاته للقضايا الآنية والمستقبلية جادة ومتفردة ، بعيدة عن لعب السياسة واهازيج الشعارات الطنانة ومواويل الصحبة الحزبية الموسمية . كثيرة سجايا شيخنا الملاحي رحمة الله عليه ، وأختم بما كنت اعرفه ملياً عنه وعن قرب ، فالفقيد نموذجاً للقلب الصافي والخاطر الحاضر ، ليس في ثقافته حسد ولا في سلوكه نكد ولا في مواعيده هزل أو ملل ، طلعته بهية في المحافل ، مكانه محفوظ بالمنازل ، والشواهد تصدح بذكره مربياً ومعلماً وأخاً كريماً ، كريماً بالنصيحة والمشورة ، مثالاً للسماحة والرضا وفياً لأهله وأصحابه ومجتمعه ، وفياً لعمله ولواجباته ، حليماً في علاقاته ، صادقاً مع الله ، فقيراً بالدنيا غنياً بالعزة والكرم والإنجاز الوافي المتقن ، نسأل الله له المغفرة والجنة ، وسلام على من اتبع الهدى .