استهلال : وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } الأنفال آية"30″0 تنقضي السنون .. وتمر الأيام .. ثم يأتي من جديد تاريخ لذكريات أحداث قد مضى زمانها … بيد أن مضي الزمن لا يعني تبدد الحدث أو نسيانه .. وعود تاريخ الحدث يذكر الناسي والغافل من الخلف بما حصل لسلفه من السلف من نعم ومنح أو مصائب ونقم .. فيعتبر الخلف بمثل هذه المواقف قال تعالى( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) .سورة إبراهيم آية " 5 " . وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم حدث .. يعود علينا كل عام ثم ينقضي نفتتح به عام هجري جديد ونودع به عام سبقه .يتلألأ نور الهجرة النبوية في بقاع الأرض الإسلامية .. فيحتفون به ليس من قبيل الرفاهية أو الترويح على الأنفس . الاحتفاء بغرض التذكر للمواقف والأحوال …التي هجرت الأمة بعدها حال وانتقلت من خلاله إلى حال جديد .. من عبودية واضطهاد وضعف … إلى قوة وهيبة بل وحكم للعالم … وفتح الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بالبشائر والانتصارات على أقوام كانوا يبادرون محمد صلى الله عليه وسلم بالعداء بل ويكنون له في صدورهم ما هو أشد وأنكى مما يظهرون . يستلهم المتأمل لأحداث الهجرة النبوية كثيراً من الوصايا والتوجيهات.. فالهجرة حدث فارق في تاريخ الأمة المحمدية . فالأحداث والعبر متنوعة ومتعددة .. والكيس من تأمل واستنبط.. واستفاد وأفاد بما استنبط قال صلى الله عليه وسلم " المؤمن كيس فطن " وقال أيضا " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ". وبما أننا نعيش في خضم هذا الحدث في هذه الأيام .. فسنعيش في عجالة مع جملة من الوصايا والتوجيهات … التي ينبغي على الزعامات ورجال السياسة أن يستفيد وها من الحدث المبارك .. خصوصاً وأن أمة الإسلام يخنقها ساستها، بل و يحكمون عليها بالإعدام فرجال سياستها .. آخذين نهجهم من قول لويس الرابع العشر أحد ملوك فرنسا حين قال يومئذٍ: "الدولة أنا" فهم القادة الملهمون … وأصحاب الفخامة والجلالة المبجلون.. أما غيرهم فلا يستطيعون أن يحكموا … نسوا وتناسوا حياة خير قائد وزعيم من أرسل رحمة للعالمين القائل فيه الرحمن الرحيم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) سورة الأنبياء آية "107″ وبما أننا مع الحدث وفي الحدث فإننا نهدي للزعماء والساسة جلهم صغيرهم وكبيرهم جملة من الوصايا والفوائد من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لعلهم يعتبرون فيقتدون بحبيب رب العالمين القائل فيه رب السموات والأرضين (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) سورة الأحزاب آية " 21 " وقال سبحانه: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ً ) سورة الفتح آية " 9″ وهنا نورد بعضاً من التوجيهات والوصايا النبوية من هجرة خير البشرية من مكة إلى طيبة : وصية أولى : الرفق بالرعية وعدم التعنيف : الرعية أمانة في ذمة راعيهم .. يحقق لهم كل ما يستطيع تحقيقه يرأف بهم وقت الحاجة يرحم ضعيفهم .. ويعين محتاجهم . ويثبت ضعيف إيمانهم .. يرفق بهم ولا يعنفهم .. إذا ما حلت بدار ساحتهم المصائب فهو رب البيت .. وقائد القافلة فالناس مأمورون بأمره . ومنتهون بنهيه .. وقد قال صلى الله عليه وسلم ( الرفق ما دخل في شيء إلا زانة ) .. وهاهو محمد صلى الله عليه وسلم .. يوم أن خاف الصدِّيق من وصول كفار قريش إلى الغار ظناً منه أنهم سينالون منه فخاف ولم يكن خوفه على نفسه .. يموت الصديق ويعيش محمد صلى الله عليه وسلم .. فالصديق رجل والرجال كثيرون ومحمد صلى الله عليه وسلم أمة ..فلم يعنف عليه صلى الله عليه وسلم … أو يبتزه لأنه في وقت حاجة .. بل لم يتطاول عليه أو ينهره أو يؤنبه .. بل لم يقل له اسكت تعنيفاً وتقريعاً له .. ستفضحنا وتكشف أمرنا بل كان يهدئ من روعه وهو يقول له ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .. فأنزل الله في شأن ذلك قرآنا يتلى إلى قيام الساعة:( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )سورة التوبة آية"40 "… فهلا اعتبر ساسة اليوم من هذا الموقف .. ممارسات خاطئة وابتزاز للبشر في تعاملهم، و تعنيف وقسوة .. نسوا معنى وأثر الكلمة الطيبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الكلمة الطيبة صدقة ) … ونسوا قول الفاروق عمر : ( متى استعبدتم الناس وقد ولتهم أمهاتهم أحراراً . فقلما تجد صاحب منصب يتعامل بالرفق مع موظفيه وسائر البشر ظناً منه أن التعامل بتلك الكيفية يضعف شخصه ويكسر هيبته . وصية ثانية : الاهتمام بدور العبادة والعلم الاجتماع على كلمة سواء من مقتضيات نجاح أي عمل كان .. والتفرق والتشرذم باب واضح للفشل ….والاجتماع في دور العبادة خمس مرات في اليوم يؤكد على حاجة البشر للنجاح في أعمارهم في الدنيا والآخرة …. وفي الاجتماع تأكيد على مدى الجانب الروحي وتأثيره في تغيير النفوس وتغيير سلوكياتها الخاطئة المشينة … ففي طريق هجرته بناء النبي في قباء مسجداً وصفه الله في كتابه : ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) سورة التوبة آية "ا08″. وحال وصوله المدينة بنى مسجداً الصلاة فيه تعدل بألف صلاة من مساجد الأرض عدا الحرم المكي .. والمسجد الذي أسري إليه … بالمساجد والحفاظ على الصلوات في جماعة تأكيد على وحدة الهوية والانتماء .. ومن المساجد تخرج العظماء من علماء الأمة وقادتها … ويوم أن ضاع المسجد ولم يعد يؤدِ الرسالة ويحقق المقصود الذي أنشئ من أجله ضاعت الأمة … فالحاكم في زماننا قلما نجده في المساجد …. وقل اهتمامه بطلبة العلم الشرعي القابعين في بيوت الله يقضون ليلهم ونهارهم في طلب العلم الشرعي عن علماء تلقوا العلم خلفاً من سلف .. في المسجد يتحسس الحاكم هموم محكوميه ويتعرف من خلا له عن أحوالهم عن قرب فالخطيب يصدح بخطبته يوم الجمعة معرجاً فيها على الهموم والغموم الملاحقة للشعوب … قد يحضر الحاكم للمسجد عادة ثم يتغيب طوال أيام الأسبوع … فينسى كثيراً مما قاله الخطيب ،العلة في ذلك مخالطة الحاكم طوال أيام ستة لأناس غشاشون يبجلونه ودجالون يوسوسون له كما يوسوس الشيطان الرجيم لعابديه وطائعيه .. فيطرونه بما لم يفعل، ويقولنه ما لم يقل، وينسبون إليه أنه قد قدم وقدم، وأن غير ه من السابقين لم يصنع شيئاً للبلد … خشية منهم أن يتغير حاله وتتبدل طريقة تعامله فتفقد تلك الفئة الغافلة عن حقوق الشعوب مصالح ومنافع كانت تحققها لنفسها من وراء تلك الجلسات في أماكن تضييع الأوقات … المسجد وطلبة العلم أساسان في نجاح الشعوب وتحقيق مقاصدها فهلا اعتبر الحكام بهذا وبدءوا في إعادة الروح إلى دور العبادة من أجل استعادة بريقها التي كانت تتنور به …. وترك الحضور الذي يقتصر عادة على الحفلات والولائم من أجل التصوير والظهور من أجل ليشاهدهم الأبناء في البيوت على شاشات الفضائيات وبناء القصور الفارهة والإغراءات … و.. و ..و .. في غفلة عن عنوان بارز للنجاح وهو المسجد. وصية ثالثة : غرس وشائج المحبة بين رعيته . المؤمن للمؤمن كالبنيان إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى … المؤمن الحق الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) … الأخوة عنوان للتعايش بأمان ووئام بين الشعوب وبين أبناء القرية الواحدة والمديرية والمحافظة والوطن الواحد …. الوحدة هيبة وقوة … فالنبي صلى الله عليه وسلم من أول وهلة، وبمجرد وصوله المدينة الطيبة أرسى قاعدة الوحدة أولا .. فقد جمع الصحابة في دار أنس بن مالك وآخى بينهم في الله أخوين أخوين .. بالوحدة والمحبة تتحقق الأماني .. قد يأتينا سؤال مفاده كيف إذاً يمكن لنا التوحد في ظل واقع مغاير لواقع زمن الرسالة حيث الانفجار السكاني واتساع نطاق الدولة وكثرة عدد المسلمين؟ .. الجواب: إن الوحدة يمكن تحقيقها بالعدالة أولاً، ثم عن طريق مؤسسات مختلفة وبطرق متنوعة .. عن طريق المؤسسات المجتمعية .. والمؤسسات الحكومية المختلفة بين أبناء الأمة العربية الإسلامية .. يجمعنا هدف واحد ويجمع غيرنا أهداف مختلفة سعوا إلى الوحدة فحققوها .. تخطيط سليم من ذوي الرأي السياسي .. فها هم موحدون …في حين فرقنا نحن المسلمين سادتنا وكبراؤنا .. فهاهي الهجرة تحمل لهم وصية من رسولهم ورسولنا عليه الصلاة والسلام فقد كان قائداً ومعلماً وزعيماً لم يسع للتفرقة بين المسلمين .. بل دلنا على تحقيق الوحدة بطرق متعدد . فهلا يعتبر حكامنا وأهل السياسة برسول الله ليعيدوا لنا وحدتنا التي هي سر قوتنا وقوة الأمة وهيبتها . خاتمة مقالي بالدعاء والابتهال : نسأل الله في مطلع العام الهجري الجديد فتح مبين ونصر مؤزر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم … وأن يكون عام تغيير يحمل في طياته بشائر تسعد المسلمين في بقاع الأرضين . يا رب حقق الأماني وفرج على نبيك فحالها لا يخفى عليك يا أرحم الرحمين ..