إن الحراك الاجتماعي الذي شهده الشارع العربي بشكل عام واليمني بشكل خاص في الفترة الأخيرة والذي أتى كنتيجة من نتائج التطورات السياسية على الساحة العربية التي بات يطلق عليها اليوم بثورات الربيع العربي تلك الثورات التي أكدت بما لا يدع مجالا للشك بأن المعيار الحقيقي لنجاح النخب السياسية هو قدرتها على معايشة الجماهير وتنظيم صفوفها . وقد أثبتت الجماهير العربية بأن لديها من الآمال والطاقات ما يمكنها من احتضان الثورة لفترات أطول والاحتفاظ بديمومة الفعل الثوري مهما كلفها ذلك من تضحيات . وكنتيجة لذلك فقد أظهر المواطن العربي اهتماما غير مسبوق بمتابعة الأحداث السياسية والخوض في مناقشتها والتطلع باتجاه القيام بدور فيها إذ أصبح معظم الأفراد باختلاف طبقاتهم وتفاوت ثقافاتهم يقدرون أبطال تلك الثورات ويتطلعون للعب نفس أدوارهم يترحمون على شهدائها ، ولدى كل فرد منهم الاستعداد للحاق بهم . وهي روح شعبية ثورية لم نلمسها في أي وقت من قبل منذ ثورات التحرير في الوطن العربي . وبالتالي فما تحتاج له الجماهير في مثل هذه الظروف هو توعيتها بدورها ورسم الأهداف واضحة أمامها وتمكينها من طرق وأساليب انتزاع حقوقها وتقدم صفوفها .لأن الاعتماد على عمليات الشحن العاطفي للجماهير عن بعد على حساب قناعاتها العقلية قد ينجح لحشد آلاف مؤلفة منها ولكن لفترات معينه ما تلبث أن تتفرق وتتشتت إذا ضعف التأثير أو دخل مؤثر جديد لديه من القدرات والإمكانات ما تمكنه من صرف الجماهير عن أهدافها الرئيسة واشغالهم بمشاريع جزئية قد تؤدي إلى اختلافها وتصادمها بعضها ببعض وهذا ما لمسناه في كثير من المنعطفات السياسية والثورية التاريخية ولا يزال قائما إلى اليوم . إن عدم الاهتمام بتوعية الجماهير يعتبر من أكبر معوقات العمل السياسي لما يترتب عليه من نتائج تضر بالوطن والمواطن بل وبمستقبل التيارات السياسية نفسها المتبنية لمثل هذه التحركات .. فكل عمل سياسي يحتاج إلى احتضان اجتماعي وممارسة بعض المحتجين لبعض الممارسات كاقتلاع أعمدة الكهربا ء وتخريب بعض الممتلكات العامة كتعبير عن غضبهم وقوة احتجاجهم أو تسلل البعض بينهم بهدف نهب الممتلكات الخاصة والعامة كل ذلك يؤدي على اتساع الهوة بين التيار السياسي و مجتمعه لذا فتوعية الجماهير بأهدافها أمر هام ، فهذه الممتلكات قد بنيت من خير بلادهم وعلى حساب لقمة عيشهم وهي ملكهم مع كل ما يمكن أن تؤدي إليه النتائج السياسية لذا فمن الواجب الحفاظ عليها للاحتفاظ بها كما أن المواطن البسيط هو شريك في المعاناة وليس طرفا من أطراف الصراع . كذلك إقناعها بتبني أساليب ذات بعد سياسي وذات عمق وتأثير اجتماعي ، فشعار كن معنا أو أنت ضدنا شعار يصنع المخالفين بامتياز . فليكن شعارها إن لم تكن معنا فنحن معك ومن أجلك فمن لم يكن معها اليوم فمن المؤكد أن يكون معها وبين صفوفها في الغد . وستتسع قاعدتها الاجتماعية كلما كانت أهدافها واضحة والسير نحو تحقيقها ثابت . فشرذمة الجماهير بين فصائل مختلفة ترفع نفس الشعارات وفي نفس الوقت لا تقبل بعضها بعضا هو عمل يضر بمستقبل الفصائل السياسية نفسها ويقلل من مستوى تحقيقها لأهدافها المختلفة التى تسعى لتحقيقها وتسمح للآخرين باختراق صفوفها واستعدائها ضد بعضها لاشغالها عن أهدافها الحقيقية . لذا فمن الضروري أن تسعى أولا باتجاه توحيد صفوفها وتقديم التنازلات في سبيل نجاح ذلك طالما وأنها لا تنحرف بالتيار السياسي عن تحقيق أهدافه الوطنية . ويبدأ ذلك باختيار القيادات الواعية والمتمرسة القادرة على استيعاب المتغيرات السياسية والتعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي بكل وعي ومسؤولية لأن عدم القدرة على استيعاب متغيرات الواقع المتجدد ينتهي بالتيار السياسي إلى الانعزال وفقدان الفعالية . فارتباط القمة بالقاعدة في العمل السياسي وتعزيز التفاعل العاطفي بقناعات عقلية أمر هام في جعل الجماهير متمسكة بأهدافها مقدرة لقياداتها ومرتبطة بهم حتى في أصعب المواقف مهما كلفها ذلك من تضحيات ، وفي هذا الجانب أختتم حديثي بحكاية مرت علي قبل سنوات عندما كنت أقرأ عن الثورة الصينية وسأعتمد في سردها على الذاكرة التي ربما أسقطت بعض جوانبها إلا أن الحكاية ليست هدفا في حد ذاتها وإنما هدفت منها إلى استخلاص درس ، ولا أعتقد بأن الخيانة الجزئية للذاكرة ستقلل من شأنها ، والحكاية كالتالي :- إنه وأثناء الثورة الطلابية الشيوعية التي كان يقودها ماوتسي تونغ ضد حكومة جان كاي شيك الذي حاول تدمير قواعد الشيوعيين في جنوب الصين مما اضطرهم للانتقال إلى الشمال فيما سمي بالمسيرة الطويلة في أثناء هذه الحرب وقع أحد جنود ماو بيد الجيش الوطني الذي كان يقوده كاي شيك كان الجندي جريحا متعبا يرتجف من البرد والجوع فشرعوا يستوجبونه .سألوه : هل تعرف ماو تسي تونغ ؟ كان من المتوقع أن ينكر قائده وهو تحت وطأت العذاب لكنه لم يفعل ذلك بل فتح عينيه وابتسم وكأنه سمع نداء النجدة ! أجاب : نعم أعرفه هو رجل عظيم .. هو غاية في البساطة . إذا تكلم فهمه بسطاء الناس . هو دائما ما يكون بيننا يأكل من أكلنا وأثناء الحملات ينام معنا على الأرض وما عليه إلا أن يدعونا فنسير بعده إلى حيث يريد بنا.. وفي آخر معركة خضناها رأيته بأم عيني منبطحا بجانبي يطلق النار من بندقيته . نعم أعرف ماو تسي تونغ إنه الرجل الذي أعطاني بعظمة نفسه وروح كفاحه وبإخلاصه وتواضعه هدفا أعيش من أجله بعد ان كنت تائها . إذن لابد أن توعى الجماهير بأهدافها لتتمسك بها وتدافع عنها . وعلى القائد أن يتقدم صفوفها ويضحي من أجلها لتتحول أفكاره الواعية إلى قيم يتمسكون بها ويناضلون من أجل تحقيقها ويدافعون عنها ويستشهدون في سبيلها .