تعودنا أن البيانات الصادرة عن القبائل ومنظمات المجتمع المدني في حضرموت تذهب أدراج الرياح.. والواقع أن مثل تلك البيانات شكلت في بداية ظهورها خطوة جديدة ما كانت معروفة للمواطنين من قبل فالتفتوا إليها وتعلقوا بها باهتمام شديد، ثم اكتشفوا بمرور الأيام أنها مجرد كلام عابر، وإن تلاحقت البيانات. واللافت أن لغة أغلب البيانات الحضرمية إن لم نقل كلها رصينة ومتينة ومنقوشة بدقة، الأمر الذي طالما ذكرني بإجادة الحضارمة عبر التاريخ نسج البرود والثياب التي تحدثت عنها الآثار كثيرا، والعلاقة قوية بين نسج الثياب ونسج الكلام كما يقول دارسو الأدب حتى إنهم أرجعوا جودة فن البديع في الشعر العباسي إلى الزركشة التي ظهرت في ثياب العباسيين وآنيتهم، وعلى هذا يمكن القول بلغة القدماء إن بعض البيانات الحضرمية صيغت بماء الذهب لجودتها وجمالها. غير أن ما أريد أن أتطرق إليه ليس هذه الناحية من الموضوع، وإنما نوعية الايديولوجيا التي تحكم المجتمع الحضرمي في هذه المرحلة التاريخية، هل هي الإيديولوجيا القبلية، أو ايديولوجيا المجتمع المدني، أو مزيج بينهما؟ ما يمكن رؤيته بوضوح هو مزيج بينهما لصالح المجتمع المدني حيث يسعى الجميع نحو استعادة النظام والقانون كما تدل البيانات، وآخرها بيان قبائل الحموم الذي نشرته المواقع الالكترونية الحضرمية يوم الخميس الماضي 20/6/2013م بعنوان ((بيان قبائل الحموم حول تجاوزات كتيبة أمن الشركات وما صاحبها من أحداث)) وكذلك الخبر الذي نشر في اليوم والتاريخ نفسه ((مجلس قبائل سيبان يهيب بكافة الشرائح والفئات ومنظمات المجتمع المدني بالوقوف صفاً واحدا لحماية حضرموت)) . والواقع أن البيان (الحمومي) والخبر (السيباني) يحملان سمات الخطاب المتحضر بعيدا عن القبيلة كرمز على وعي أقل مدنية، وإن كانا من حيث الظاهر يستندان إلى قبيلتين أو تجمعين قبليين كبيرين فإن ما يحركهما ويدفع بهما هو هذا الوعي الحضاري الذي يعمل في أنظمة تفكير الناس وتظهر معه رؤية مدنية واضحة تجاوزت حدود التأرجح بين القبيلة والمجتمع المدني إلى درجة زوال الصراع بينهما الذي مازال قائما في بعض مناطق اليمن في التسابق على مواطن إدارة السلطات المختلفة بعقليتين مختلفتين مدنية وقبلية. الأمر الذي يضمن لحضرموت بقاءها كبنية متماسكة وإن تعددت فيها ألوان الطيف الاجتماعي. وهذه مسألة أولى مهمة. لم يتحول البيان الحمومي إلى خطاب عصابي متوتر بل استعرض حالات الانتهاك واختتم بعدد من المطالبات القانونية المشروعة، صحيح أن مثل هذه البيانات قد لا يؤبه لها في منطق التفكير القبلي القائم على العنجهية، لكن البيان الحمومي والخبر السيباني يصران بمنطقهما الرزين (الواعي) على عدم تحول الخطاب الحضرمي إلى فعل عنجهي، وهنا يأتي الفرق بين الرؤيتين فلن تسمح حضرموت لنفسها أن ترجع إلى موقع الرؤية المتخلفة، وإن تألمت راهنا وأيقنت أن المسألة بحاجة إلى كثير من المتابعات والصبر. إن الضامن الحقيقي لسلامة حضرموت وحفاظها على مستقبلها هو هذه القيم الثقافية والحياتية الناضجة مما يعني أن المجتمع في حضرموت لا ينظر إلى حاضره فقط وإنما إلى مستقبله أيضا، ومجتمع كهذا يعرف من الآن أين يضع خطوته وكيف يضعها، لأنه يقرأ ما يترتب على ذلك من خطوات لاحقة، فيختلف عن الجماعات والقبائل التي يكن تحريكها بالريموت كونترول وفقا للحاجات والصراعات، وهذه مسألة ثانية مهمة ستؤتي ثمارها ذات يوم.