اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه, وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه " كم من مريد للخير لن يصيبه " كلمة قالها ابن مسعود رضي الله عنه تستحق منا التأمل والتفكر فيها جيدا قبل أن نهرف ونذلق بما يلجأنا للاعتذار لاحقا, وهي – الاعتذار- صفة نهانا النبي – صلى الله عليه وسلم – أن نقع فيها فقال للرجل الذي طلب منه أن ينصحه بإيجاز : " صل صلاة مودع كأنك تراه ، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، و أيأس مما في أيدي الناس تعش غنيا، و إياك وما يعتذر منه " صححه الألباني في صحيح الجامع رقم3776 . وكم من عاقل ذلت نفسَه كلمةٌ أرسلها بلا خطام ولا لجام, أو قصيدة باح بها فوه, أو مقالة أفرزها فكره, ألجأته لمذلة الاعتذار وهوانه, هذا إن لم يصبه أذى من جرائها, وصدق ابن السكيت حين قال: يموت الفتى من عثرة بلسانه *** وليس يموت المرء من عثرة الرجل فعثرته بالقول تذهب رأسه **** وعثرته بالرجل تبرأ على مهل وغالبا, أن ما يصدر من رؤوسنا من حماقات وترهات وتجاوزات مصدرها إما عن جهل وعدم إحاطة علم, وإما عن قصد خبيث دفين مبطن, وكلا الأمرين على خطر ومهلكة لأن مآلهما البوار والثبور. وإن مما ينكأ الجرح ويدمي القلب أن ترى العاقل اللبيب المحب يهوي في هوة لا ناقة له فيها ولا جمل, ويخوض معركة ترتد سهامه نحو نحره, ويجتهد في خلق علاقات تشوبها شائبة العداء والبغضاء, وتكون العاقبة الخاتمة؛ كتجربة الكسعي النادم, هذا ما أستطيع أن ألخص به حالة أخي الدكتور أحمد باحارثة في مقالة الأخير " إنما يحار المواطن من شيوخه العلماء " وأنا أعرف الدكتور جيدا وقد ارتبطت معه في دورات شرعية كنا نقيمها في معهد حضرموت للعلوم الشرعية وبرعاية جمعية الحكمة اليمانية وكلا المؤسستين يرأسهما والدنا وشيخنا الفاضل أحمد بن حسن المعلم أطال الله عمره في طاعته, وكانت حينها علاقتنا علاقة بناء وتكامل وتعاضد وأظنها لا زالت, وأحمل من الحب والتقدير له لما رأيت فيه من بذل وجهد ومثابرة, ولست في مقالي هذا أنشد التشهير والتوبيخ ولكني أمارس حقٍ مشروع كما هو يمارسه في نقده لمن يرى أنه يستحق ذلك, كما أنني أعتقد أن مرسمه خرج عن إطار صفحته وأتى بثالثة الأعاجيب, مما يستوجب الرد والتنبيه. وأبرز ما شدني في مقاله تكريسه لمقولة ( الفصل بين الدين والسياسة ) وهي مقولة علمانية ليبرالية بامتياز, وهي أصل الأصول وأس الأسس في ديانتهم وعقيدتهم, وحتما هولا يقصدها ولكني أظن أنها حشرت في زاوية ضيقة من فكره بسبب موجة التغيير التي اجتاحت المنطقة وعرجت على عقولنا جميعا فأحدثت فيها هزات ونتوءات دون تيقظ منا وانتباه, وهذا حسن ظن مني, وإلا فإن قوله ( لقد أصبحت عندي عقدة من ربط الدين ورجاله أو علمائه بالسياسة) يوحي بتغيّر في المنهجية والفكر. وفي السياق نفسه أجده قد اتكأ على نفس حجتهم, وردد عين مقولتهم, بأن السياسة قذرة و( لا يطهرها الماء بكافة أنواعه الفقهية من مطلق ومستعمل وما خالطه طاهر ) وثالثة الأثافي لمز العلماء ونبزهم بما لا يليق بهم, ك(السذاجة المعممة), والعلماء ليسوا مقدسين عندنا بالمفهوم الذي تظنونه, ولكننا نجلهم ونقدرهم ونعرف لهم فضلهم ومكانتهم وهذا موجود في شرائع الأمم ولم نختص به دونهم, وقد شهد الله لهم بالفضل والرفعة فقال: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ومن محاسن القدر أن بصري وقع قبل أن أسطر كلامي هذا؛ على مقال لليبرالية سعودية تفضح فيه بني جلدتها و( خويها ) كما يعبرون عنه هنا في المملكة, ومن ضمن ما ذكرت أنهم تواصوا في لقاء سري عقدوه, بتتبع عثرات وزلات العلماء ومن ثم استغلالها والتشهير بها في القنوات والمواقع وذكرت مثالا على ذلك. وقضية السياسة والدين وربطهما مع بعض – أخي أحمد – ليست مخفية عن صغار طلاب الحلقات ناهيك عمن يحمل الشهادة العالمية, ومعلوم أن من ضمن العلوم الشرعية التي تدرس اليوم في جامعاتنا " علم السياسة الشرعية " ومن خلاله يتعرف الطالب على حكم الله الشرعي في إدارة الحكم والعلاقات الدولية وفقه التعامل مع النوازل, وندرس في كليات الاقتصاد؛ الاقتصاد الإسلامي وكيفية إدارة الأموال, فهل نستطيع أن نلغي كل هذا التراث المعرفي, وهل نستطيع أن ننحي السيرة النبوية وما فيها من تفاصيل وجزئيات في الحكم والقضاء والاقتصاد والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية والتحالفات. من تأمل في هذا جيدا يعلم خطورة هذا الفكر الشيطاني الذي أربأ بنفسي ونفسك – دكتور – أن نكون من أتباعه أو أن نردد مقولاتهم عن جهل منا. ولم تدنس السياسة قط أخي أحمد إلا بعد ما أبعدناها عن شرع الله عز وجل واتبعنا الشريعة الوضعية التي أحدثتها الثورة الفرنسية, والتي قامت على مبدأ التجرد من كل القيم والأخلاق والمعاني الفاضلة, وكرست مبدأ " ما لقيصر لقيصر وما لله لله " ومبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " وإلا فإن الشعوب الإسلامية حكمت بشرع الله عز وجل قرونا, وكنا رواد العلوم التجريبية ورواد القيم والأخلاق في كل المجالات بما فيها المجال السياسي, وتاريخنا حافل بالروايات في هذا المجال, فدونك كتب التاريخ والسياسة الشرعية لتعرف كيف ساس أؤلئك دولهم وما هو دستورهم الذي ساروا عليه. وهنا قضية لطالما ترددت على ألسنة بعض جِرَاء العلمانية في بلادنا, ولطالما وودت أن أقول شيئا عنها, وهي ذات صلة بما ذكرته الليبرالية السعودية في شأن العلماء والتشهير بهم والتنفير منهم, وهي: إذا نزلت بالأمة نازلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ولم يُسمع للعلماء قول فيها, نجد هؤلاء أول يسارعون إلى التنديد والاعتراض ويصرخون في كل بوق إعلامي: أين صوت العلماء ولماذا يصمتون؟ وإذا تكلم العلماء وقالوا قولتهم وأبدوا رأيهم, عادت تلك الجِرَاء مرة ثانية لتقول: ما لكم وللسياسة, والزموا مساجدكم ومحاريبكم ودعوا السياسة لأهل الشأن فيها. فهؤلاء – يا سيادة الدكتور – يريدون علماء " سوبر ماركت" يعطيك ما تريده أنت, لا ما يجب أن يقال, ومن هنا فإن انشغال العلماء بالسياسة وفق الضوابط والمحاذير الشرعية من ألزم أعمال العلماء والمشايخ الآن – في نظري – بعد أن سقطت تلك الشياطين التي حكمت الأمة لمدة خمسة أو ستة عقود وأوصلتها إلى الذل والتبعية والانهزامية, فمن حقهم كمواطنين أولا ثم كأهل علم ودراية أن يكون لهم رأي وقول ومشاركة في سياسة البلاد. وكم تأسفتُ لأنك ما استطعت أبدا أن تمنطق هذه القضية بمنطق شاف كاف كما هو شأن العلمانيين وهي: أن العلماء مواطنون ولهم كل الحق مثلما هو لغيرهم في كل المجالات بما فيها السياسة, إن كانوا يملكون الآلة والقدرة والكفاءة, فلماذا حرام عليهم حلال لكم, ولهذا ظهر التناقض العجيب في كلامك وحاولت جاهدا الترقيع بعد التلفيق, ولكنك لم تفلح حيث تقول ( إن من حق كل مواطن المشاركة في الحياة السياسية بالرأي والعمل لكن بعيدًا عن العمامة والسبحة والمسواك ، وبعيدًا عن بيوت الله والمؤسسات الدينية، حفاظًا على وقار العمامة وروحانية السبحة وطهارة المسواك ) فهل يا دكتور تستطيع أن تعطيني نصا شرعيا أو وضعيا – قانونا – ينص على استثناءك المذكور. نعم ستجد ذلك النص ولكن في الدستور الأمريكي أو الفرنسي, وربما لن تجده في الدستور الإسرائيلي. ختاما أتمنى من الدكتور العزيز أن يعيد النظر في كل ما طرحه وقاله, وأن يجد من يفك عقدته تلك, وأن يتق الله عز وجل في قلمه فهو مسؤول عنه أمام الله عز وجل.