في البدء وجد الشعب السوري نفسه كأي شعب عربي أصابته عدوى الثورة الآتية من تونس و مصر ، و ذلك حقه التاريخي كما هو حق الشعب البحريني و السعودي و القطري و غيرها من الشعوب العربية التي تعيش تحت وطأة أنظمة فردية شمولية ترى نفسها صاحبة حق إلهي في الحكم . كانت صرخة بوعزيزي تعبر الحدود بسرعة خرافية لنجد تخرج بذات الصدق و الحرقة من أفواه الملايين و تملأ شوارع و ميادين عواصم و مدن عربية عدة بهديرها الغاضب ، و تناسلت تلك الصرخة شعارات شبابية تكسر حواجز الخوف من الحاكم و السلطة و آلات القمع المسلطة على رقاب الشعوب على مدى عقود . ذلك ماكان يطلق عليه الربيع العربي الذي لم يكن مستغربا أن يحضى الشعب السوري بالتشجيع و التعاطف العربي في أن يكون له حضور و حصة من ثمار ذلك الربيع ، غير أن المستغرب أن شعوبا عربية أخرى رازحة تحت سلطة أنظمة ملكية لا تزال تحكمها بعقلية القرون الإمبراطورية الغابرة ، لم تحض بأي تأييد أو تعاطف أو تشجيع حين أرادت أن تنال حصتها من قطاف ذلك الربيع ، بل قمعت و قتلت و ارتكب بحقها أشد و أبشع أنواع التنكيل و تآمر عليها القريب قبل البعيد و حشدت الجيوش و سخر الإعلام لإسكاتها . الشعب السوري كان قادرا على فرض خياراته و مطالبه ، و الشعب البحريني كان قادرا على فرض خياراته و مطالبه ، كما كان الشعب الليبي و الشعب اليمني قادرين على ذلك أيضا ، و كما أثبت الشعبان التونسي و المصري ذلك من قبل . غير أن ثمة أنظمة عربية و حسابات دولية تملكتها هيستيريا القلق من اكتمال ذلك الرييع الثوري الذي كانت نسائمة المحملة بالثورة تهز دعائمها الهشة و تغرد بالقرب من شرفات قصورها المترفة. لم يكن اسقاط نظام القذافي في ليبيا على يد الناتو و بتمويل من أنظمة الاستبداد الأسري في ممالك النفط الخليجية ، ليثير حفيظة شعوب المنطقة التي لم تكن قد بدأت استيقظت بعد من نشوة الحماسة الثورية إثر سقوط نظام مبارك و بن علي، و لذلك لم يكن التدخل في شأن الشعب الليبي من قبل ما يسمى بتحالف المشروع الأمريكي ليثير انقساما في الرأي العام العربي و الدولي ، و أسهم في ذلك الصورة السوداء التي كانت مرسومة في الذهنية العربية و الدولية عن القذافي و تاريخه . و حين وصلت رسل ما يسمى بالربيع العربي إلى سوريا و البحرين و اليمن دقت نواقيس الخطر في أروقة ذلك التحالف الذي يستمد بقاءه و استمراره من غفلة الشعوب العربية و بعدها عن توجيه القرار و رسم المستقبل و تحديد وجهة المصير و إدارة المواقف تجاه القضايا و السيادة و الاستقلال .. الخ . فلم يكن أمامها سوى الدخول بثقلها إلى عمق الحدث و هذا ما حصل في اليمن و نجح حتى الآن . في البحرين و سوريا تجلت بوضوح المؤامرة على ما يسمى بالربيع الثوري العربي ، و أخذ التدخل المباشر و المعلن في السيطرة على مسار الحدثين في البلدين و بآليتين متناقضتين و موقفين يلعن الأول الآخر .. في البحرين وقف تحالف المشروع الأمريكي مع النظام و كان تدخلها عسكريا معلنا ليس لمساندة الثورة كما تقوله شعاراتها لتبرير ما حصل في ليبيا، بل لقمع الشعب البحريني و قتل مطالبه ، و أما في سوريا فقد بدا واضحا و معلنا السعي الحثيث للحيلولة دون نجاح التغيير في سوريا كما يريده الشعب السوري ، و فرض المشروع الانتقامي الذي تقوده دول تحالف المشروع الأمريكي الصهيوني ضد النظام السوري و ضد النهج و التوجه السوري الممانع ليلعب دور الثورة و يحقق أهدافه باسمها .. التحركات السلمية التي نجحت في تونس و مصر و كادت أن تنجح في البحرين و نجحت إلى حد ما في اليمن ، لم ينجح تحالف المشروع الأمريكي في ركوبها لإسقاط نظام الأسد في سوريا و باءت بالفشل أمام تماسك النظام و أجهزته الأمنية و العسكرية و تراجع التأييد الشعبي للتحرك السلمي نتيجة انكشاف الإعلام الموجه في تضخيمه و التسويق له عبر نسج الإشاعات و الفبركات و الفتاوى و التحريض و التشويه و بتنظيم و تمويل هائلين و حملات مقاطعة دبلوماسية ، أثارت كلها حفيظة الشعب السوري و قلقه من القفز على إرادته و فرض مشروع يناقض مشروعه . فبدأ التحرك الدولي و الضغط الأممي على النظام و أسفر عن مبادرات و ارسال وسطاء و مراقبين و مبعوثين لحلحلة الوضع ، و حين لم يتغير شيئ على الأرض بدأت المواقف المتآمرة تظهر على السطح و تعلن عن نواياها دون تحفظ الأمر الذي جعل الرأي العام المحلي و العربي و الإسلامي ينقسم بين رافض للمشروع الأمريكي الصهيوني الواضح و بين ساكت مترقب ينتظر النتيجة ليحدد موقفه مما يجري ، لو رصدنا مسلسل ما حصل في سوريا منذ الربيع الأول في 2011 مرورا بالربيع الثاني الذي جاء ميتا ، وصولا إلى الصيف السوري الساخن الذي أحرق كل زهرة و كل غصن أخضر كانت سوريا تتزين به ، سنجد أن محاولات المشروع الذي تبنته دول التحالف العربي الأمريكي الصهيوني كانت تتساقط أمام صلابة النظام السوري الذي يستمد قوته من تماسكه و تعاطف الموقف الشعبي معه ، و هذا ما جعل قوى ذلك المشروع تلجأ إلى اتخاذ تحركات ذات طابع آخر كاشفة عن الوجه البشع الذي طالما توارى خلف شعارات الثورة و التغيير ، فبدأت باستخدام أداة الإرهاب الذي طالما استخدمتها كمشكلة تحاربها و ذريعة تخلقها لتمرير مشاريعها في أماكن أخرى .. الإرهاب هذه المرة ليس عدوا يأتي التدخل الأمريكي و حلفه للقضاء عليه ، الإرهاب في سوريا أصبح سلاحا معلنا في يد المشروع الأمريكي لإسقاط الدولة في سوريا ، لعل المذابح التي شهدتها مناطق عدة في سوريا تحكي بجلاء أن الإرهاب دخل في اللعبة في سياق تشويه النظام و تأليب الشعب السوري ، غير أنها سرعان ما اصبحت لعنة كشف عورة المؤامرة ، و أما التفجيرات التي شهدتها العاصمة دمشق فلم تكن أكثر من محاولات لخلخلة الثقة بالجهاز الأمني عبر عمليات نوعية كان آخرها تفجير مبنى الأمن القومي الذي أودى بحياة كبار رجالات الدولة الأمنيين و العسكريين و تنجح بالفعل في اختراق الجدار الأمني السميك داخل النظام السوري .. غير أن الملاحظ و بجلاء من خلال ما يجري في سوريا أن هذه هي المرة الأولى التي نلمس فيها اعتراف " تحالف المشروع الأمريكي " بأن القاعدة و الإرهاب صنيعتها و سلاحا من أسلحتها ، هذه المرة نلمس ذلك الاعتراف صارخا في رطانة تلك القوى و تشفيها و السعي لقطف ثمار جرائمها..فضلا عن اعتراف الصمت و البهجة في لغة التعاطي الإعلامي مع الحادثة و الحوادث السابقة المشابهة التي حدثت في سوريا .. إضافة إلى الموافقة الضمنية التي يصرح بها صمت جامعة الدول العربية تجاه التفجيرات التي تشهدها سوريا ، و المعتاد أن مثل تلك الحادثات الإرهابية تواجه بالإدانة و تكون ذريعة لتحرك القوات الأمريكية لمحاربتها .. لم يعد ثمة ما يدعو للشك بأن ما يجري في سوريا ليس ثورة تغيير بل مشروع أمريكي خليجي انتقامي يهدف إلى اسقاط الدولة السورية بما تتميز به من عمق تاريخي و ثقافي و حضاري و مشروع ممانع لا يتلخص في نظام بشار وحسب بل في توجه دولة و ثقافة شعب .. و استخدام ثقافة العنف و التطرف و محاولة اشعال فتيل حرب طائفية دليل على استهداف سوريا الدولة و ليس سوريا النظام السياسي .. و للحديث حول هذا الموضوع بقايا و تشعبات يصعب احتواؤها هنا .