عبد العزيز السيد المنسق العام للموسوعة الفلسطينية الميسرة ، أمين عام المؤتمر العام للأحزاب العربية
بعد والدي، إثنان هو ثالثهما تحجرت إثر وفاتهما الدمعة في مقلتيّ جليداً، فيما توهجت جمرتها في صدري لهيباً، الأولان هما القائد الفلسطيني ماجد أبو شرار والثاني السياسي العربي الأردني سليمان عرار، وها هو اليوم أنيس صايغ عميد الفكر العربي الفلسطيني يلتحق بهما، كل منهم غادرنا على غير ميعاد، وفي مرحلة كان له فيها دوره المطلوب، وكل منهم كان ما زال حتى رحيله يعيش آمالاً عراضاً في وقت اتسم بالخطر والخطورة، والتآمر على القضية الفلسطينية والأمة العربية.. وكل منهم كان بالنسبة لي عنوان محبة وإخاء على الصعيد الشخصي، معلمة نضال على صعيد الأمة، ومع أن لكل منهم خصائصه، فهم يلتقون جميعاً في مزايا ندر أن نجدها في أيام المحن وساعات العواصف ورياح التآمر، لم يحملوا بندقية ولا مسدساً، لكنهم حملوا روح التفاؤل وقوة الصبر، وجذوة الإرادة، وضوء البصيرة، وينبوع الفكر، ومناهل الثقافة التي جعلوا منها توليفة حددت سمات الدور وحجم ما يستلزمه من طاقة الاحتمال على غير صعيد. ولن أسترسل في عقد المقارنة بين هذا الثلاثي التي قد تبدو للكثيرين في غير مكانها، فلذلك موعد آخر، لكن سمة لا يستطيع أحد أن ينكرها أنّ كلاً منهم قد غمط حقه، غاب أو غيّب دوره، وما أحسب أحداً غمط حقه أكثر منهم إلا أحمد الشقيري صانع التاريخ الفلسطيني المعاصر، مؤسس الكيان الفلسطيني الذي تصطرع الدنيا، نعم كل الدنيا، من حوله اليوم، ويسجّل لأنيس صايغ أنه حمل راية الحفاظ على الشقيري فكراً وتراثاً كما لم يحملها أحد، حتى أنّ آخر مقالاته التي كتبها أنيس قبيل الرحيل بأيام (جريدة الأخبار/ بيروت) كانت عن لاءات الشقيري المعروفة بلاءات الخرطوم، ومن قبله كانت له مقالات عديدة منذ رحيله عام 1950 ناهيك عن عديد من الندوات التي دعا لها وشارك فيها وأشرف عليها، فضلاً عن المقدمات التي كتبها، ولا سيما مقدمته الضافية للكتاب الموسوعي الذي أعدته تلميذته المؤرخة المعروفة د. خيرية قاسمية، (أحمد الشقيري زعيماً فلسطينياً ورائداً عربياً). وآخرها مقدمة (الأعمال الكاملة للشقيري) التي أصدرها مركز دراسات الوحدة العربية.
الوقوف على مآثر أنيس في مناسبة رحيله لا يسمح بالحديث المفصل عنها، لكنني أقف عند بضع إضاءات من واقع أحاديثنا في السنوات الأخيرة، فحين كنت- كما كثيرون من محبيه ومحبي القضية- أحثّه على كتابة مذكراته كان يأبى بتواضع جم وغير مقبول: "ليس لدي ما يفيد الأجيال.." وحين "أحشره" كان يطرح ما طرحه آخرون من قبله، وسيطرحه آخرون من بعده بأن كتابة السيرة والمذكرات تعني انتهاء دور صاحبها ورسالته، ثم إذا بهم يمضون فتمضي معهم وقائع وأفكار وأحداث وأسرار، وذات يوم في لقاء هادئ في دارته أجبته بأن هذه المشكلة حّلها عديدون منهم ميخائيل نعيمة حين أصدر كتابيه (ستون وسبعون) ابتسم رحمه الله وصمت قليلاً ووعد بأن يأخذ الأمر بجدية.. وفي اللقاء التالي أسعدني أن يبادرني بقوله إنه قد حزم أمره، لكنه يريد فسحة وقت يبدأ فيها الكتابة دون أن تقطعها عنه المشاغل... وبعد أربعة شهور وفي اتصال هاتفي بيننا زفّ لي بشرى إنجازه لها وأنه دفع بها إلى الناشر (رياض الريس) وحينما عرض علي نسخة الكتاب أذهلني العنوان: أنيس صايغ عن أنيس صايغ.. ظللت برهة أتملى الغلاف والعنوان وفي صدري وخزة لم تبرحني بعد، وعمقتها في نفسي كلماته بعد ذلك وبسخرية مريرة: نحن الذين صمدنا وقاومنا لا أحد يكتب عنا، لذا اخترت هذا العنوان.. كأنما هو عتاب مرّ لجيلنا الذي نهل من معين د. أنيس فكراً وثقافة وقدرة على الاستشراف البعيد والتحليل العميق.. جاملته ببضع جمل أذكر منها أني قلت له: أستاذي ... يكفيك أنك عميد الفكر العربي الفلسطيني، وبتواضعٍ فائق وخجل طاغٍ أبى عليّ ذلك وقال كثير عليّ هذا.. هذه عين الرضا ، والله يشهد أنها لم تكن إلا قناعة وإيماناً غرسهما هو بما أسدى وقدم وأجزل. كان آخر عهدي به قبل عشرة أيام من الرحيل حين هاتفته من فندقي المجاور لبيته في بيروت للقاء حول (الموسوعة الفلسطينية الميسرة)، التي شرف مجلس أمنائها بقبول أن يكون مستشارها، ثم رئيس تحريرها بتنسيب من علاّمتنا الأجلّ زميله في الموسوعة الفلسطينية د. ناصر الدين الأسد... يومها كانت بيروت تتدفق بوابل من المطر الغدق، فيما الريح العاتية تعصف بكل شيء، قال لي : أنا مصاب برشح شديد منذ يومين، ولا أستطيع أن أخرج من البيت، ولا أنصحك بالحضور إليّ فأنا أعرف ضعف مناعتك، لكني آت والدكتورة [هيلدا شعبان – زوجته] إلى عمان لقضاء إجازة العيد ورأس السنة، وفي الساعة العاشرة صباح السبت سأهاتفك لنرتب موعد اللقاء، ونلتقي بالأصدقاء كما في العام الماضي، وذكر منهم د. ناصر الدين ود.عزمي بشارة ومنير شفيق، وانتهت المكالمة على أمل الاتصال الموعود. منذ عرفت د. أنيس ما أخلف موعداً لا في اليوم ولا في الساعة. وفيما كنت أنتظر هاتفه، جاءني الهاتف ولكن من الأخ عبد الله حمودة صديقه الذي كان مكتبه منتدى لقائه بأصدقائه وتلامذته في عمان كلما حلّ فيها، ولكن أيضاً كان عبد الله يقول بغصة بادية: "أخ أبو إيهاب.. مات د. أنيس.." لحظتها أضاف إلى فجيعة عائلية لم أكن قد خرجت منها بعد فجيعة أكبر، هي فجيعتي وأبناء شعبي وأمتي بعلم نال الصهاينة من جسده قبل نصف قرن، لكنهم ما نالوا من عطائه الموصول أبداً.. فإذا بالموت يلحق به بعد سبعة وأربعين عاماً. عقود عطاء حرّ وعناء مرّ، وإذ نذكرها اليوم لا بدّ أن نذكر معها شريكته فيها الباحثة الدكتورة هيلدا.. لا كزوجة ورفيقة درب وعمر فحسب، بل إنها كانت خلالها نور عين بصراً بصيراً، وسمعاً سميعاً وقلباً منيراً وصبراً صبوراً. عدت بعد أن نعاه الناعي لأستذكر سجاياه وعطاءاته، فوقفت مجدداً عند عنوان مذكراته المرير: أنيس صايغ عن أنيس صايغ وكيف أننا سنسارع لنكتب تحت هول الصدمة عن أنيس كتابة حارة بلفح العاطفة، لكنا سنكتب غداً عنه كتابة هادئة استلهاماً واعتباراً.. صحيح أنه نهض برسالته لم يبتغ جزاء ولا حمداً ولا شكوراً. لكن دينه في الضمائر والأعناق كبير كبير، وبالرحيل حان السداد ولم يعد يحتمل التأجيل.. ذلك أنه أدى الرسالة ووفىّ الأمانة. - فبعد اليوم سنتقد الفكر العربي الفلسطيني عميده.. لقد شغر كرسي العمادة حقاً. - وبعد اليوم لن يوجه أنيس الدعوة لرهط المثقفين من رفاق الفكر والرأي والقلم ليلتئموا في نادي خريجي الجامعة الأمريكية لحضور (اللقاء الثقافي الفلسطيني) الذي واظب على دعوتهم له سنين طوالا. - وبعد اليوم لن يحرّر كتب التكريم عن الراحلين من أعلامنا الراحلين في ذكراهم كما فعل بكتابه (أوراق فلسطينية وعربية) تكريماً لذكرى رحيل رفعت النمر... بل ولن ينهي تحرير كتابه التالي في ذكرى رحيل شفيق الحوت. - وبعد اليوم لن ننجز في ركابه الموسوعة الفلسطينية الميسرة التي عكست حماسته لها إيمانه بضرورة تقديم فلسطين لأبناء الأمة من جيل القرن الحادي والعشرين. - وبعد رحيله لن نقرأ له ما يكشف المزيد من الجوانب الثرّة والثرية في مسيرة أحمد الشقيري ومسيرته في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والوحدة العربية. - وبعد رحيله سيخلو مكتب عبد الله حموده في عمان من أحاديثه المفعمة بصوت العقل ومهمات العمل من أجل فلسطين. - وبعد... وبعد.. كثيرة هي هذه العناوين التي سنفتقدها. لقد نهض أبو مركز الأبحاث والموسوعة والدوريات الفكرية العربية بما لم تنهض به العصبة من الرجال والنساء. فهل ثمة من عصبة من الرجال والنساء تنهض من بعده بما نهض به هو .. ذلك هو ما يريح نفسه في ملكوتها، ويعيده بعد الرحيل هانئاً مطمئناً إلى معشوقته الأغلى طبرية التي كان ينقلب في حضرتها طفلاً مدلهاً , طوبى لروحك، وإنا على عهدك بإذن الله باقون، ولفكرك حافظون. وشمسك أبداً لن تغيب