يخطئ الذين يتصورون ان الثقافة ليست أخذا من كل شيء بطرف فقط، بل يصرون على ان العلم عنصر من عناصر الثقافة وان المثقف لا يكون كذلك إلا اذا رفع رأسه إلى السماء،فرأى الاجرام، فانشغل بعض الوقت بحركات النجوم ومسار الأفلاك وما إلى ذلك. وقد يتصورون ان المثقف لا يكون كذلك إلا إذا جال ببصره في كتب تتحدث عن الحيوانات وأنواعها والبلدان ومواقعها... الخ ما يدخل في نطاق العلم. الواضح ان الثقافة ليست عدوا للعلم ولا تنفر منه ولا تقطع صلتها به ولكنه ليس عنصراً من عناصرها لان الثقافة تصدر من الوجدان وتمض إلى الوجدان والعجيب ان الثقافة حينما تصل إلى اعلى مراتبها تصقل العقل وتوسع رؤاه وتجدد حيويته ونشاطه وتدفع به الى مجالات أكثر اتساعا، فهي بعد تلقائيتها وعدم الوقوف على صانعها ومع تجددها المستمر مع الزمان والمكان تنتقل إلى سمة أخرى وهي "معارضة" أنشاها الاحتجاج فوسع نطاقها الاعتراض على ما يجري لا في دنيا الحكم والسياسة او التقاليد فحسب بل في الوقت نفسه شكوى واستغاثة. فالإنسان يولد أعزل من كل ما يدافع به عن نفسه فيرى تناقضات متكاثفة وعلما ناقصاً وادعاء متزايداً واخطاء تسمى حكمة ثم تكشف عن ويلات وما الى ذلك من التناقضات والصراعات.. هنالك يصرخ طالباً العون والرشاد خوفاً على نفسه من الضياع ،هذه الشكوى وهذا التخبط وهذا الإصرار على المعرفة في مجاهل التيه وانقطاع السبل هو المراد الأول للثقافة،ولذلك قد انبثقت شكوى ملتهبة تكاد تشبه قذائف النار جريئة وصارخة تكره القيود والموروث والسلطان والقبول والرضا وتدعو إلى الثورة والسخط والتمرد. من هنا يأتي دور الثقافة في اتقان أساليب الشكوى وصياغتها في مواويل شاكية باكية وحكاية ساخرة هازئة والغاز معقدة متحدية وفلسفات تغير الزمان والمكان،وتدعو إلى عالم جديد. وللثقافة أيضاً سمة أخرى فبعد ان عرفنا أنها تلقائية ومعارضة فهي "شعبية" وهي في هذا الجانب من سماتها تجمع النقائض فهي بقدر تواضعها وبساطتها أيضاً مدعية وفخورة ومتأهلة،وهي أخيراً شعبية تصدر من الشعب وتتوجه إليه،وهي لا تسكن القصور،بل تعيش وتنمو وتزداد سلاطة لسان في الحارات والازقة والشوارع. تتغذى بطين الأرض وتعاشر هوام الفقر،ومع ذلك فهي متكبرة مترفعة، "لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب" فتسخر من الجاهل والمضطرب كما تسخر من الفيلسوف والمفكر،وتريد شيئاً ما مجهولاً ولكنها لا تكف عن طلبه والسعي وراءه والالحاح في معرفته ،ويبقى ان نعرف ما رسالتها أهي سخرية وغضب وتمرد فحسب ام هي تراث ماض لا يتجدد؟ ام أنها تصنع من جديد،وتضيف إلى الموروث أشياء لم تقل من قبل وترسم صوراً لم يبدعها رسام ولم تخرجها ريشة؟ هي كذلك.. قديمة وجديدة ولا تكف عن الإهابة والإثارة والتهييج ولكن من الذي يصنعها الآن؟ مسك الختام.. الثقافة هي شحن الوجدان وملء النفس بالحركة والتطلع الى التجديد، وبالرغبة في الإبداع المحموم،والابتكار المشتعل.. وهي خالية من العلم، ولكنها تدفع الناس إليه، وتحببهم فيه، وفي الحرية أيضاً.. في الماضي كان شعراء الجاهلية العربية هم المثقفون وفي الحاضر نجد مثقفين لم يتموا تعليمهم.