على المشترك أن يبت في مقاطعة الانتخابات دون أن يلوي على شيء. إنه القرار الأصوب. وهو فوق كل شيء، أسلوب سياسي مشروع ومعقول في آن. والراجح أن المشترك –بهذه الخطوة- لن يتكبد الكثير من الخسائر. بالعكس، ستكون كلفة مشاركته، إن شارك، هي الباهظة، بينما المردود سيكون ضئيلاً للغاية، بل لا يكاد يبين. يحاول المؤتمر أن لا يأبه. فقد أبدى قدراً من اللامبالاة حين قررت كتلة المشترك الانسحاب من قاعة البرلمان صباح الأحد قبل الفائت كتعبير عن رفضها إدراج مشروع تعديل قانون الانتخابات ضمن جدول أعمال المجلس. لكن في لهجة عبدالله أحمد غانم ما يشي بالقلق. فقد أرجع الرجل -وهو رئيس الدائرة السياسية للمؤتمر- التوترات التي تعتمل على المشهد السياسي اليمني إلى سببين رئيسيين: تعنت الحوثي، وقصور فهم المشترك للوضع السياسي. ثم إن غانم انتقد، في حديث لأسبوعية 22 مايو أمس الأول، تموقع اللقاء المشترك في مسافة متساوية بين الدولة وتمرد الحوثي، وأحياناً على مسافة متساوية بين الدولة "والدعوات المشبوهة للانفصال"، حسبما قال. القلق يتكثف بشدة في هذه العبارة: "الإخوة في قيادة المشترك يلعبون الآن لعبة جديدة تهدف إلى إسقاط المؤتمر وإفشاله، وهذا الأمر معروف لدينا ومنتبهين له جيداً". جيد أن ينتبه المؤتمر. لكن ما جدوى هذا الانتباه بالنسبة إلى حزب بالكاد تنتظم كيانيته في مواجهة الخصم المنافس. هب أنه لا منافس يقف في طريقه، كيف سيكون المآل الحقيقي لهذا الحزب. المشترك هو الذي يجب أن لا يأبه للأمر. عليه أن يتخذ قرار المقاطعة دون أن يرمش له جفن. لماذا؟ لسبب بسيط جداً: لأنه ما من مخاطر وجودية تحدق به، كما هو الحال بالنسبة للمؤتمر الشعبي العام. يستطيع المشترك أن يحقق بالمقاطعة أمران، وبالمقابل يتفادى أمران. فمن شبه المؤكد أنه سيحقق هذين الأمرين: وضع مجموعات المصالح ومراكز القوى داخل المؤتمر وجهاً لوجه مع نفسها، ما يعني انقسام المؤتمر وتشرذمه وفقدان الخيط الرفيع الناظم لكيانيته الهشة، والبدء في إرساء تحالفات سياسية مع المجموعات المنكسرة داخل المؤتمر على أسس وطنية. ولابد أن حجمها سيكون موازياً لحجم المجموعات التي ظفرت بالغنيمة إن لم تفوقها عدداً وليس عدة. أما الأمران اللذان سيتفاداهما المشترك فهما باختصار: الحفاظ على تماسكه الكياني (المادي) وتناغمه النفسي والعاطفي. فالمؤكد أن خوض معركة انتخابية ضارية ومحسومة سيخلف قدراً من الصدوع والفجوات والجروح التي لن تندمل بسهولة. ثم إن المقاطعة ستحمي أنصار المشترك من مشاعر الإحباط وخيبة الأمل، إذ أنهم سيتابعون الانتخابات من موقع المراقب الشامت الذي يؤمن بصوابية تقديره للأشياء. ** لا يوجد شيء يمكن أن يحول دون اندثار المؤتمر. لقد أفصحت انتخابات المحافظين التي جرت في مايو الفائت عن جزء مقتضب من السيناريو المحتمل. لابد أنكم سمعتم بقصة فهد دهشوش. والذي لا يعرف هذا الرجل عن قرب سيقول أن ما قام كان هيناً. لقد صمد في وجه مرشح الرئيس حتى اللحظات الأخيرة. تقدم دهشوش، وهو شيخ قبلي شاب في ال38 من عمره، ويشغل موقع رئيس فرع المؤتمر في محافظة حجة، لترشيح نفسه لمنصب المحافظ. وكان قد تبوء منصب وكيل المحافظة قبل عام تقريباً. لسوء حظه، كان المرشح المنافس هو المحافظ الجنوبي فريد مجور، الذي لم يمض على توليه المنصب أكثر من عام. كلا الرجلين ينتميان إلى المؤتمر، بل هما المؤتمر أصلاً. حظي دهشوش بتأييد غالبية أعضاء المجالس المحلية. غير أن مشيئة الرئيس كانت تقضي ببقاء مجور على رأس المحافظة، كيفما كان الأمر. ولمن لا يعرف، فولاء دهشوش للرئيس وللمؤتمر مطلق ونهائي. وكانت كفته هي الراجحة. وإذ لم تفلح جهود الرئيس في إثنائه عن قراره، فقد تدخل وزير الإدارة المحلية شخصياً بشكل سافر لإجهاض محاولة الرجل العنيد. فقبل الانتخابات ببضعة أيام رفع الوزير دعوى قضائية تطعن في أحقية دهشوش بالترشح نظراً لصغر سنه. إلا أن القضاء حكم لصالح دهشوش. لم يتوقف الأخير عن المغامرة. كان عليه أن يمتثل لمصالحه قبل أي شيء آخر، وأن يصغي لصوته الداخلي الذي يقول له بالحرف: أنت الفائز بلا منازع. وبالفعل كان الفوز ينتظره على فوهة الصندوق كأي شيء مفروغ من حصوله في موعده. لكن بدلاً من ذلك، كان سرير المستشفى هو الذي ينتظره في صبيحة ال17 من مايو (اليوم الموعود). فعشية ذلك اليوم، طرق بابه وفد كبير من مشايخ حاشد، وراحوا يحطمون أمامه 14 عسيباً، الواحد تلو الآخر، لإحراجه وإجباره على الانسحاب استجابة لداعي "القبيلة". انسحب دهشوش من الترشح، لكنه كاد أن ينسحب من الحياة بعد ذلك. كم من دهشوش سيظهر في الانتخابات القادمة، فيما لو قاطع المشترك. هذه هي الطريقة الأكثر سهولة لدحر المؤتمر: الكف عن مشاطرته اللعبة. إنها حالة اللافعل. وفي الظروف غير الطبيعية يصير اللافعل أكثر جدوى من الفعل نفسه. وبالنظر إلى المعطيات الموضوعية القائمة (النظام الانتخابي-جداول القيد-تماهي المؤتمر مع الدولة وفيها) التي ستجري الانتخابات في سياقها، فإن على قيادة المشترك أن تتساءل: هل خيار خوض الانتخابات سيكرس سلطة المؤتمر، أم سيقوضها؟ الأسبوع الفائت، قال مدير المعهد الديمقراطي الأمريكي ديمتروف، إن مقاطعة المشترك للانتخابات ستكون بمثابة رصاصة الرحمة. وهذا التصريح أثار الكثير من الشكوك والمخاوف في نفوس "المشتركيين". والحق أن كلام ديمتروف ليس هو القول الفصل. فهذا الشخص قد يقول كلاماً مختلفاً بعد شهر أو أقل. فهو لطالما اشتهر، منذ توليه مهامه في صنعاء، بتناقضه مع نفسه. علاوة على أن قوله لا يمكن أن يستساغ إلا في مناخ ديمقراطي سوي ومتكافئ وعادل، بحيث تغدو المقاطعة تصرفاً سياسياً رخواً ومتكاسلاً ينذر بالخمول والموت بعدئذٍ. المشترك يلعب مع خصم جبار، وفق قواعد جائرة. لهذا فهو يمتلك ما يكفي من الأسباب للانسحاب من حلبة الصراع. ** شهوة الانتصار تحكم تصرفات الخصم القوي على الدوام. بيد أنه، حين لا يجد من ينازله، سيخترع من داخله خصماً يلبي رغبته الجنونية بالانتصار. وبالتالي فإنه سينهمك في مبارزة نفسه والتغلب عليها وإرهاقها وتبديد قواها. ما يعني في نهاية المطاف: انهياره المطلق، وتلاشيه، وزواله بالنتيجة. إذاً، والحال هذه، يتعين على المشترك أن لا يدع للمؤتمر شيئاً يمنحه فرصة التغلب عليه كي يعود فيغلب نفسه بنفسه. زيادة على ذلك، فاللعبة المسلية هي نشاط تنافسي في الأصل. أي أن التنافس شرط التسلية. وحينما يغيب هذا الشرط لا تكون اللعبة سوى ممارسة خرقاء لاستنفاد الطاقة. المؤتمر كيان هلامي كبير، لكن قابليته للانهزام = صفر. وهذه لب مشكلته. فالخصم المتنمر، الذي لم يتعلم كيف ينكسر ولا كيف ينهزم، هش. لأنه ببساطة يعتقد أن في هزيمته وانكساره يكمن المعنى الضمني لنهايته بالذات. إنه يعمل ضد منطق الأشياء. وعلى أية حال، يجب على المؤتمر أن يكترث حقاً. فاللعب مع خصم حقيقي بشرف، لهو دليل سوية إنسانية في المقام الأول، قبل أن يكون مؤشر نضج سياسي راقٍ. فمن المشين والخطر أيضاً، اللعب مع الفراغ. فالطفل وحده هو الذي يميل عادة، إلى اللعبة الانفرادية. لكن عندما يتخطى ال5 من عمره يصبح أكثر ميلاً نحو المشاركة، فيما تصبح ألعابه ذات منزع تنافسي تقتضي وجود خصم مقابل. فحينما يكسب هو فإن على الآخر أن يخسر حتماً، وحينما يكسب الآخر يجب عليه أن يخسر دون أن يعتريه شعور بالإهانة، أو رغبة مرضية بالانتقام. هكذا ينمو في داخله الحس بالآخر. فمثلما بات يعرف كيف ينتصر، فإنه بات يعرف أيضاً كيف ينهزم. غير أن الأمور لا تنحو هذا المنحى إلى مالانهاية. ففي مرحلة عمرية بذاتها يتغير المسار. أي إن الإنسان يتوقف ليعود إلى خانة الصفر. فإحساسه بالآخر يأخذ بالتضاؤل، وتغدو ميولاته الانعزالية مستحكمة في سلوكه الاجتماعي، في حين يفقد قدرته على تحمل وجود الآخر، مجرد وجوده. على هذا المنوال ينبغي أن تسير الحياة السياسية الناضجة. أقصد على أساس التشارك والمفاعلة، وليس على أساس الاستبعاد والإخضاع والعزف المنفرد. ** والخلاصة، إن المقاطعة ليست قراراً غبياً، طالما وقواعد اللعبة (المرئية واللامرئية) تصب في صالح المؤتمر من ألفها إلى يائها. إنها الوسيلة الأنجع للتخلص من الخصم العتيد في 2009. لا شيء يبعث على الحيرة. لسنا بلداً مثالياً. وإذ تتحول الديمقراطية إلى عاهة، فإن هناك دائماً سبب أخلاقي للمقاطعة. الخميس القادم سيسدد المشترك ضربة ذكية في صدر الحزب الحاكم. فاللقاء التشاوري السنوي الثالث الذي سيضم القيادات العليا والمحلية للمشترك وكتلته البرلمانية، يجب أن يفضي إلى قرار من هذا النوع. في 2009 سيتهدم المؤتمر من داخله كقلعة تركية موغلة في القدم. هكذا سيفكر الرئيس، حالما يتخذ المشترك قرار الانسحاب. حينها إما أن يواصل (الرئيس) المشي بإطار واحد، أو أنه يستجيب لغريزة البقاء؛ فيترجل ويعيد الإطار المخلوع إلى نصابه، مهما كان الثمن. ويبدو أن الإصلاح، من بين كل أحزاب المشترك، ستكون له حساباته الخاصة. وهو، فوق ذلك، يفتقر إلى خبرة المقاطعة منذ ولادته. لكن هذه المرة عليه أن لا يستسلم. عليه أن يتجاوز المفهوم البائد للانتخابات، الذي يعتبرها موسماً خصيباً لكسب أعضاء جدد أكثر منها موسم للمغالبة والإمساك بزمام السلطة. المؤتمر يضع رجلاً على رجل ويتحدث بنبرة مسترخية. إنه يتظاهر بالاطمئنان لكونه يمتلك أدوات النجاة اللازمة في الظروف الطارئة. ولو فكر ملياً في صندوق الفراخ (أحزاب المجلس الوطني للمعارضة)، التي يعول عليها، لوجد كم هي بائسة وأليفة وداجنة. ليس بوسع هذه الأحزاب مجتمعة، أن تحرك شعرة واحدة في شارب الحزب القوي. بكلمات أخرى: لا تستطيع هذه الأحزاب إرضاء فضول المؤتمر، وهي لن تشعره بالاستهداف، والشعور بالتهديد والاستهداف هو الذي يحفظ تماسك الكيانات والمجموعات. هناك فرق بين أن تلعب مع شخص يحاول أن يهزمك، أياً كانت قوته ومهارته. وبين أن تأتي بشخص ليمارس معك اللعب من أجل أن تقنع نفسك بأنك لعبت فقط. * يُنشر بالتزامن مع صحيفة المصدر