ليس الثأر والنزعات القبلية العائق الوحيد في وجه التعليم، هناك عوامل وظروف اجتماعية وعادات وتقاليد أخرى ساهمت في تأخير العملية التعليمية في محافظة مأرب وبالذات تعليم الفتاة. النائب المأربي علي عبد ربه القاضي، رئيس كتلة المستقلين بمجلس النواب، نموذج يستحق أن يحتذى به من قبل أبناء محافظته واليمنيين بشكل عام؛ فقد كان الداعم الأول للتعليم في محافظة مأرب، وهو من كسر حاجز تعليم الفتاة هناك؛ ليس التعليم الأساسي والثانوي فحسب، بل التعليم الجامعي، حيث حصلت إحدى بناته على درجة البكالوريوس من جامعة صنعاء في عام 1989، وتعتبر أول فتاة تحمل شهادة أكاديمية من محافظة مأرب. لم يلتفت القاضي للعادات والتقاليد التي تنظر لتعليم الفتاة على أنه "عيب"، وإن كان ولا بد فالفتاة تتعلم حتى تقرأ وتكتب ثم تترك المدرسة، لذا لا أعتقد أن سنوات دراسة ابنة القاضي الأربع قد مرت دون أن يتعرض والدها لانتقادات من أسرته وقبيلته وزملائه من المشايخ، كان يراد منها تشكيل ضغوط نفسية ليتراجع عن قراره المتمثل في تدريس ابنته في جامعة صنعاء. لكن تلك الضغوط تحطمت أمام إرادته الفولاذية وقناعاته الراسخة والتي كانت أقوى من تلك الضغوط يومها، والتي تضاف أيضا إلى اختلافه مع النظام، وكان في أوجّه يومذاك. قد يكون من السهل الانتصار على الأحاديث والانتقادات الشفوية. لكن من الصعب أن تصمد القناعات، وأن يستمر الفرد سائرا في طريق يحيط به الرصاص من كل جانب. وقد واجه "القاضي" موقفا صعبا اعتقد الناس بعده أنه لن يستمر في دفع أولاده لمواصلة تعليمهم الجامعي، وذلك بعد أن طالت رصاصات الثأر في العام 97 ابنه (ياسر) جوار الحرم الجامعي أثناء ذهابه إلى كلية الطب بجامعة صنعاء والتي كان طالبا فيها. اليوم تحمل اثنتان من بنات "القاضي" درجة الدكتوراه، إحداهما في الفيزياء وعلم الذرة، والأخرى في الآثار وعلم الحضارات. وتواصل ثالثة دراسة الماجستير في كلية الزراعة بجامعة صنعاء بعد أن عملت أستاذة فيها. وهناك خمس أخريات يحملن درجة البكالوريوس من كليات التربية والآداب والزراعة والإعلام. وفيما تخرجت هذا العام إحدى حفيداته من كلية التجارة والاقتصاد، تواصل إحدى بناته دراستها في المستوى الرابع بكلية الطب في جامعة صنعاء للظفر بشهادة أكاديمية من تلك الكلية التي كانت طموح أخيها الذي حالت رصاصات الثأر دون بلوغه ذلك الطموح، وكانت النزاعات القبلية سببا في توديعه آمالا كبارا لم يكتمل عامها الأول. يقول "القاضي"، متحدثا إلى "النداء" مساء أمس الأول، إن عدم رضوخه للضغوط الاجتماعية التي تواجهه بسبب دعمه لتعليم أولاده وخصوصا البنات وكذا عدم اعتباره ما حدث لأولاده نهاية الدعم، ناتج عن قناعته بأن أبرز أسباب التخلف في الوطن العربي "ضعف التعليم. ونحن في اليمن تأخرنا أكثر من غيرنا". ويضيف: "نحن في مأرب هناك عوامل متعددة حرمتنا من التعليم، وبالذات تعليم الفتاة، التي تقف أمام تعليمها عوائق اجتماعية كثيرة، وكان الناس يرون أن ذلك خارج عن الأعراف والأسلاف، حتى أنني سمعت ذلك الكلام من مثقفين يمنيين من غير أبناء مأرب". لكنه يفخر بأنه أول من كسر حاجز تعليم الفتاة في مأرب، ويفتخر أيضا بأن بناته يحصلن على درجات امتياز مع مرتبة الشرف من كليات الجامعة. ويشير إلى أن قناعاته كانت ضد ذلك التوجه، على اعتبار أن أي امرأة جامعية لا يمكن أن تترك أولادها دون تعليم، والناس في مأرب دفعوا بناتهم للتعليم بعد البدء في توظيف الخريجات، فصار تعليم الفتاة أيضا من الناحية الاقتصادية أكثر جدوى من الذكور الذين يتخرجون وبالكاد تكفي رواتبهم "للولعة" (القات والسجائر). أما الفتاة فإن راتبها تتصرف فيه أسرتها. "وأحب أن أؤكد أن الفتاة إذا تعلمت فإننا سنخرج إلى بر الأمان". يعتبر "القاضي" أن التعليم في مأرب متردٍّ إلى أقصى حد. لكنه قال إنه لن يعلق إلا بعد تخرج أول دفعة من كلية مأرب التي يؤمّل أن تكون رافدا سيسهم في رفع مستوى التعليم بمحافظة مأرب. العميد "القاضي" فقد -بسبب الثأر والنزاعات القبلية- إلى جانب "ياسر"، ابنه "عمار"، واستشهد في محافظة الجوف ابنه "محمد" المهندس الزراعي الذي كان يعمل مديرا لمكتب الزراعة في المحافظة ذاتها، وكان الموت غرقا من نصيب "طارق" خريج الكلية الحربية. لكن الأب كان أكثر جلدا وصبرا وتحملا لتلك الأقدار. الجميل في هذا الرجل أنه يملك كل مقومات الصمود، لا يترك في نفسه مجالا لليأس والإحباط. فإلى جانب ما ذكرناه عن مؤهلات بناته الأكاديمية، وما أشرنا إليه من شهادات أكاديمية حصل عليها أولاده الذكور، الذين وافتهم الآجال، هناك "صالح" يحمل بكالوريوس سياسة واقتصاد من جامعة صنعاء، بعد أن تنقل بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، وأعاق التشطير يومها مواصلة تعليمه هناك. وفي العراق كان هناك "صقر" يدرس الهندسة. وكانت سورية محطة "صخر"، و"صلاح" لدراسة العلوم السياسية. وفيما اختار "حسين" جامعة صنعاء للدراسة في كلية الشريعة والقانون، احتفل "صخر" العام الماضي بتخرجه من كلية الشرطة حاملا ليسانس شريعة وقانون وبكالوريوس في علوم الشرطة. وينتظر "القاضي" الاحتفاء بتخرج ابنه "علي" كطيار مدني، إذ هو يدرس في كلية الطيران الملكية في الأردن. بين العوائق الاجتماعية والأقدار المعاكسة كان قدر "القاضي" أن يستمر في دعمه للتعليم، الذي لم يقتصر فيه على أولاده، فقد ركز بعد فوزه بعضوية مجلس النواب في العام 2003 على تقديم العديد من الخدمات لأبناء محافظته، ووضع التعليم ضمن أولوياته، فقد استطاع خلال العامين الماضيين استخراج أكثر من أربعين منحة من وزارة التعليم العالي للمتفوقين من أبناء محافظة مأرب، بالإضافة إلى استدعاء الوزارات المعنية بالتعليم للحضور إلى مجلس النواب أكثر من مرة للرد على أسئلته المتعلقة بحرمان مأرب من كلية جامعية، مع متابعته اعتماد فرع لجامعة صنعاء. وقد ساهمت تلك الجهود في افتتاح كلية التربية والآداب والعلوم العام قبل الماضي، وكذا اعتماد كلية المجتمع في محافظة مأرب. يرى "القاضي" أن الثارات والصراعات الاجتماعية أنواع متعددة، لكن الناس لم يفهموا إلا الثأر القبلي، وذلك بلا شك له انعكاساته السلبية على مختلف المجالات، ويكون أكثر سلبية حين يستهدف التعليم، الذي قد يكون هدفا لعناصر جاهلة تجعل من الطالب ضحية للصراعات الاجتماعية. أبرز الحلول على المدى الطويل تتمثل في تحقيق العدالة الشاملة وإيجاد النظام وتقوية دور الأجهزة التنفيذية وذلك على مستوى البلد بشكل عام. ويشدد على أهمية تبني وصياغة وثيقة شرف من شأنها أن تحمي الطالب والكادر التعليمي، ويجب أن تكون الوثيقة مصحوبة بروادع قبلية "حسب أعرافنا"، وتتحمل كافة الأطراف الموقعة مسؤوليتها، بالإضافة إلى مسؤولية الأجهزة التنفيذية. لكنها في الأساس تعتمد على العنصر القبلي، وينبغي أن تحمل تلك الوثيقة عددا من البنود لحماية الطالب، مثل غرامات مادية على الطرف المحدث، الذي قد يعتدي على الطالب، ونبذ المحدث فلا يجد له من يحميه في أي قرية أو قبيلة ويعتبر عدوا للجميع، لأنه اختار أن يكون عدوا للتعليم. وهنا يجب الإشارة إلى أنه لا بد للمعلم والطالب من عدم المشاركة في أي حرب قبلية ومن قتل أثناء مشاركته في أي نزاع لا تنطبق عليه الوثيقة. يشير القاضي إلى أن الشخصيات الاجتماعية يجب أن تشارك في صياغة الوثيقة واختيار العناصر الفاعلة والتنسيق مع السلطة المحلية لتوجيه الدعوة للمعنيين من مختلف المديريات، وتنظيم مؤتمر في مركز المحافظة يحضره المشايخ والأعيان، الذين من المفترض تواجدهم وعدم استثناء أحد منهم لإطلاعهم على صيغة الوثيقة وأخذ توقيعاتهم عليها، وكذا تشكيل لجنة من أبرز الشخصيات لمتابعة توقيع الوثيقة من قبل مختلف القبائل، وزيارتهم إلى مديرياتهم وعزلهم وقراهم لأخذ توقيعاتهم على تلك الوثيقة، التي يقول إنها لا يمكن أن يعترض عليها أي شخص عاقل. "القاضي" في سياق حديثه أشاد بالدور الذي تقوم به الجمعيات الأهلية في هذا الجانب وبارك مبادرة "جمعية المستقبل" ووثيقتها. وقال: "سنكون عونا بعضنا لبعض، وسنسخر جهودنا دعما لمثل تلك الجهود، سواء كنا نحن من يتبناها أم تبناها غيرنا". داعيا في ختام حديثه أبناء مأربوالجوف وشبوة وكافة المناطق القبلية إلى أن يتوجهوا نحو التعليم وألاَّ يفرّقوا في تشجيعهم لدعم التعليم بين الذكور والإناث؛ معتبرا دعم تعليم الفتاة أكثر جدوى، لأنها ستصبح مربية أجيال. متمنيا من الجميع وضع ذلك في عين الاعتبار وأن يتحملوا مسؤولياتهم حيال تعليم الأجيال. في واقعنا هناك أشخاص يقومون بأعمال مهمة لا تثير الانتباه، كما لو أنه لا يراد لها أن تصل إلى الناس، أو أن هناك من يرغب في صرف النظر عن أعمالهم. لكن الاستمرار في هكذا وضع من شأنه أن يصيب ذلك الشخص بشرخ عميق في نفسيته، وتصبح مثل صخرة صماء تخلل إليها الماء وأخذ يفتتها من الداخل. "القاضي" كان بمثابة رجل وقف في مواجهة عوائق جمة، كحالة متفردة كان الصمود عنوانا لها. ومما يبعث على الدهشة أن الزمن الذي اختاره لصنع نجاحاته كان الزمن الذي كانت درجات الالتزام بالعادات والتقاليد في أعلى مستوياتها، واستطاع أن ينجز ما خطط له في خطوطه العامة، بالرغم من الصعوبات والعوائق. وكان قد أدرك -دون الآخرين- أن ما قام به يشكل في الواقع جوهر حياته الحقيقية، وصار يشعر اليوم أنه أفضل -نوعاً ما- من الآخرين، لأن أحلامه التي ارتسمت في مخيلته بالأمس يراها ماثلة للعيان بعد أن كانت هاجسا إضافيا يؤرقه خلال أيام حياته المتألقة. ومنذ سنوات لا يزال الناس -بينهم منتقدوه- يترددون عليه لتهنئته أو مشاركته فرحة تخرج أحد أبنائه، لكي يمنحوا قلبه الثقة اللازمة التي طالما حرصوا في السابق على سلبها منه لترضى عنه التقاليد. كانت تخيفني الأصفار الكثيرة حول إحصائيات التعليم الجامعي من أبناء محافظة مأرب. لكن الأرقام التي سردها لي هذا الأب المثالي والنموذج القدوة، بعثت في نفسي الطمأنينة، وأعادت إليّ الأمل بأن ثمة مستقبلا زاهرا ينتظر أبناء محافظة مأرب إذا ساهموا في توفير الأجواء المناسبة للتعليم. أخيرا، في زمن التكنولوجيا المتطورة والتقنيات الحديثة، هناك اهتمام معين، وتركيز محدد، يظل أهم إنجاز قد يفتخر به المرء.