في مثل هذه الأيام قبل 39 عاما ظهر إبراهيم الحمدي في حياة اليمنيين ، كفارسِ نبيل ، إشعاع نور ، صوت عقل ، استصرخ الضمائر ، واستنهض العزائم ، وشحذ الهمم ، تغلغلت كلماتة الرصينة في وجدان الناس وعقولهم ، ورددت صدى صوته المفعم بالصدق والمليء بالتفاؤل جبال اليمن وسهولها ووديانها فانتعشت الآمال ، وشمرت السواعد ، وتبسمت الأرض . كان إبراهيم هدية الله التي استحق عليها العرفان الشكر ، لكننا ما قدرناه حق قدره ففي لحظة جنون أوكفر بأنعم الله ، امتدت اليه يدٌ منا غادرة ، خائنة ، خاطئة ، واغتالته ، ومعه اغتالت آمالنا وأحلامنا وطموحاتنا الغضة الفتيه. للشباب الذين لم يقدر لهم أن يعيشوا تلك الفترة المضيئة من تاريخنا نقول ، كان إبراهيم الحمدي أصدق الرجال .. وأنزه الرجال .. وأشجع الرجال .. حمل هموم شعبه باقتدار متنكرا لأي طموحات شخصيه ، أو فئوية ، أو قبليه ، واضعا الشعب ومصالحه فوق كل شخص وقبل كل مصلحة ، ألهبت كلماته خيال الجماهير فراحت تنظر إلى المستقبل نظرة مليئة بالتفاؤل والثقة ، وأعاد سلوكهُ العُمري إلى ذاكرة الناس قصصاً عن أئمة وقادة ومصلحين عظام ظهروا في فترات مختلفة من تاريخ امتنا ، ثم أصبحوا في الميراث الثقافي والسِّير الشعبية نجوماً تنير وترشد ، في ساعات ظلام وتلبد . عندما اذيع بيان الجيش في 13/ يونيو / 1974 الذي أُعلن فيه إسقاط نظام القاضي عبد الرحمن الإرياني وتولي مجلس قيادة برئاسة العقيد إبراهيم الحمدي إدارة البلاد، لم يحمل ذلك الحدث أي تفاؤل أو امل الى نفوس الناس وتوقعاتهم ، فحالة الإحباط واليأس كانت قد بلغت أقصى درجاتها ، لذلك استقبلوا الحركة الجديدة بالريبة والشك ورددوا مع البردوني قصيدته الشهيرة التي قالها في أعقاب هذه الحركة : يا عم دبابات ماذا ترى ؟-------- هذا انقلابٌ جدتي عارفه. وفيما بعد ... فقد غير البردوني رأيه في الحركة وقائدها ، واصفاً لها لاحقاً بأنها اكثر الفترات اشعاعاً والقاً في تاريخ اليمن الحديث. خروج الرئيس المنقلب عليه عبد الرحمن الإرياني من المطار إلى منفاه الاختياري في سوريا بكل الحفاوة والتكريم ، وقيام قائد الانقلاب الجديد بأداء التحية العسكرية له عند سلم الطائرة ،هو أمر لم يكن مألوفا في الانقلابات العربية .. ورغم أن هذا الموقف الإنساني لم يلفت إليه النظر حينها إلا من باب التعجب فقط ، إلا أن دلالاته كشفت فيما بعد سلمية وإنسانية ووعي قائد الإنقلاب الجديد . ثم بدأت الأمور تتضح شيئا فشيئا ، صدر قرار بمنع استخدام ألقاب (فخامة وسيادة) واستبدل عنها بلقب(الأخ) ، ثم صدر قرار تحديد الرتب في القوات المسلحة وتم تخفيض الرتب بما فيها رتبة إبراهيم الحمدي نفسه لتكون أعلى رتبه هي رتبة (مقدم) ، وفي عام 1975 قاد إبراهيم الحمدي عملية تطهير واسعة في القوات المسلحة حيث أزاح مراكز القوى الحزبية والقبلية من قيادة الجيش ، وكان ذلك بداية توجه الحمدي لتحويل هذه المؤسسة إلى مؤسسة وطنية ولاءها الوحيد لشعبها ووطنها بعيدا عن الولاءات القبلية والحزبية والفئوية ، وللأسف فان الخطوات التي قام بها إبراهيم الحمدي في هذا السبيل قد تم التراجع عنها كلية بعد اغتياله ليعود الولاء القبلي هو الذي يحكم هذه المؤسسة بصورة أكثر صراحة وقبحا مما كان ولا يكون الحديث عن إبراهيم الحمدي وعهدة الميمون مكتملاً بدون الحديث عن تجربه التعاونيات الأهلية التي كان له فضل إطلاقها وتبنيها ورعايتها ، ولعله من نافلة القول أن هذه التعاونيات التي انتشرت في كل المدن والقرى والنجوع لتشمل كل اليمن الشمالي من أدناه إلى أقصاه ، هي التي قادت انجاز المشاريع ووصولها إلى كل القرى والأطراف والمناطق النائية ، وشمل انجازاتها شق الطرق ، وبناء المدارس ، والمستوصفات ، ومشاريع المياه ، والكهرباء ، وهي إنجازات لا تزال ماثله للعيان حتى اليوم . التفت إبراهيم الحمدي إلي الجهاز الإداري للدولة وأعلن الحرب على الفساد من خلال إصدار قرارات بإنشاء الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ، والنيابة الإدارية ، ومحكمة التأديب ، وتكوين لجان التصحيح المالي والإداري في عموم الجمهورية التي تولت تجفيف منابع الفساد وحاصرت المفسدين والمتنفذين ، ومنعتهم من استخدام الدولة وإمكانياتها لاضطهاد الناس ونهب ممتلكاتهم وأراضيهم كما هو الحال اليوم ، بل إن هذه اللجان أصبحت سيفا مشهرا بيد الشعب ، وكانت هذه اللجان تستمع إلى شكاوى المواطنين وتحيل أي مسئول للمحاكمة الإدارية إذا ثبت تعديه على حقوق مواطن أو ثبت تقاضيه للرشوة أو مد يده إلى المال العام . وفي مجال التعليم اهتم إبراهيم ببناء المدارس وكان حرصه الأكبر على بناءها في الريف و القرى النائية حيث اعتبر التعليم حقا مقدسا لكل طفل وتم تعميم التعليم الإلزامي للمراحل الأساسية ، وكانت الخدمة الإلزامية لخريجي الثانوية العامة هي التدريس في الريف لمدة عام .. وكانت تلك الخدمة شرطا لا غنى عنه للحصول على أي منحه دراسية .. وبهذه الطريقة تمكن من توفير جيشا من المدرسين يقومون بمهمة التدريس في المناطق النائية . واهتم إبراهيم الحمدي بالمغتربين وعقد في عام 1976 أول مؤتمر للمغتربين وانشأ الإتحاد العام للمغتربين وفروعه في العديد من دول العالم لمتابعة مشاكل المغتربين وقضاياهم . وفي مجال الاقتصاد عاش الناس حياة مستقرة وبمستوى معيشي ممتاز لم يكن يبعد كثيرا عن مستوى المعيشة في دول الخليج .. ويكفي للتدليل على هذا القول أن سعر صرف الريال لم يشهد أي تدهور في عهده .. حيث كان سعر الريال اليمني يعادل تقريبا سعر الريال السعودي .. كما وصل احتياط اليمن من العملة الصعبة إلى أعلى مستوياتها .. وكانت تلك واحدة من ثمرات الاهتمام بالمغتربين واعتبارهم رافدا هاما من روافد الاقتصاد الوطني. لقد تحولت حركة 13 يونيو من مجرد انقلاب عسكري إلى مشروع نهضوي وطني متكامل .. وتحول إبراهيم نفسه من مجرد قائد انقلاب .. إلى ضمير الشعب.. وملهمه .. والومضة المضيئة في حياته ، لم يعد الشعب يسير تائها على غير هدى بل أصبح لديه قائد مخلص أمين مقتدر ولم يعد الغد بالنسبة إلى الجماهير يوما غامضا لا تعرف ماذا ينتظرها فيه ، بل أصبح الغد بالنسبة إليها حياة مفعمة بالأمل .. تتطلع إليه بالحنين والشوق. أما على مستوى السلوك الشخصي فقد جسد ابراهيم مثل وقيم الزهد والورع والنزاهة والشرف والعفة ، ويكفي للتدليل على مدى نزاهته وعفته انه في كل زياراته الخارجيه والتي كان يعود منها محملا بهدايا شخصية سواء كانت نقديه او عينية لم يحتفظ بأي منها لنفسه او عائلته واهداها جميعها اما الى المتحف او الى البنك المركزي باعتبارها ممتلكات عامة اهديت اليه كونه رئيس اليمن وليس لشخصه ، ولم تسجل عليه خلال فترة حكمه القصيرة اي بادرة لإستغلال مكانتة وسلطته لتحقيق اي مصلحة او غرض شخصي. من تجربتي الشخصية لتلك الأيام الجميلة ، أتذكر هذه الواقعة .. فقد علمنا أن إبراهيم الحمدي سوف يأتي لزيارة مدينتنا وسيصل إليها عند الظهر ، كنت لا ازال في المدرسة الإعدادية واتفقنا مجموعه من زملاء الفصل على أن نذهب مع جموع الناس لاستقباله ، وهكذا تسللنا خارجين من المدرسة وفي الدكان المجاور لمدرستنا.. تركنا كتبنا ودفاترنا .. وانطلقنا إلى حيث احتشدت جماهير المستقبلين عند مدخل المدينة .. كانت العين لا تخطيء علامات البهجة والفرح العفوي والغير متصنع من الناس البسطاء الذين تجمعوا لرؤيته ضحى ذلك اليوم .. وعندما لاح لنا الموكب قادما من بعيد انطلق الناس باتجاهه .. انطلقنا معهم ومرت سيارات الموكب الأمامية تطلب من الناس إفساح الطريق .. وبدا إبراهيم الحمدي في إحدى السيارات تعلو وجهه ابتسامة عريضة تفيض بالبشر والمحبه .. أتيحت الفرصة للبعض أن يقترب من الموكب محاولا مد يده لمصافحته .. كان يبتسم بسعادة ويلوح بيده .. ويشير لهم بعطف كي يبتعدوا قليلا عن السيارات المتحركة حتى لا يؤذي احدهم نفسه .. وما إن تجاوز الموكب حتى انطلقت الجماهير خلفه ينهبون الأرض عدواً إلى محل إقامته .. وعندما اكتمل وصول الناس ارتفعت الأصوات تطالب إبراهيم الحمدي بالخروج والحديث اليهم .. وهكذا كان .. فقد خرج إبراهيم إلى مدخل المبنى الذي احتشدت أمامه جماهير المستقبلين .. بدأ كلمته مثلما كان يفعل دائما بالحمد لله والثناء على نعمائه .. ثم بالصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين .. ثم تحدث عن الطموحات والآمال مثمناً ما تحقق منها ومطالباً الجماهير ببذل المزيد من الجهد والعمل لتحقيق ما لم يتحقق بعد ، وكانت الجماهير تتفاعل معه وتقاطعه بالهتاف ( ياحمدي هات هات ----- مكاسب وانتصارات ) .. ثم انتقل للحديث عن المشكلات والمعوقات التي تعترض مسيرة التنمية محذرا أولئك الذين يضعون العصيان في دواليب حركة التقدم بأن الشعب سوف يمضي في طريقه ولن تؤثر فيه مثل هذه المؤامرات .. وتتجاوب الجماهير معه وكأنما كانت تشعر وتحس بما يواجهه ويعانيه فتهتف ( ياحمدي سير سير --------- شعبنا لك نصير ) .. وهكذا يمضي الخطاب إلى نهايته ، ويستمر تفاعل الناس معه بالهتاف والتأييد ، بعدها يودع الحمدي الجماهير بالتلويح لها وابتسامته الحانية لا تفارق محياه قبل أن يختفي مرة أخرى داخل المبنى . هذا ليس إلا غيض من فيض ، ولعله من المناسب التذكير أننا نتكلم عن تجربه لم يُكتب لها أن تستمر أكثر من ثلاث سنوات وأربعة أشهر فقط بالتمام والكمال ، وهذا يذكرنا بسابقة اخرى من التاريخ هي فترة حكم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز التي لم تدم سوى سنتان وستة أشهرفقط ، ومع ذلك فقد خُلدت في تاريخنا العربي الإٍسلامي كواحدة من انصع وازهى صفحاته ، ولا يكاد يمر يوم دون يذكر الناس زهد وورع الخليفة عمر بن عبد العزيز ويدعون له بالرحمة والمغفرة ، مثلما يفعل اليمنيون اليوم حين يتذكرون إبراهيم الحمدي ، في حين طوى النسيان صفحات أولئك الذين حكموا عشرات السنين لكن حكمهم كان ابعد ما يكون عن الحكمة والرشد.