تواجه دول الشرق الأوسط مصفوفةً معقدةً من التحديات نابعة من تبعات الصراع المستحكم في سوريا باعتبارها "بؤرة أزمات إقليمية" تتقاطع في إطارها مصالح التحالفات الداعمة لأطراف الصراع، وما يرتبط بها من تداخلات جغرافية وديموغرافية تحمل في طياتها أزمات داخلية ترتبط بتفاقم التصدعات الاجتماعية واحتدام النزعات الانفصالية وتزايد الصدامات المذهبية. وفي هذا الصدد، يعتبر ملف "العائدين من سوريا" وخاصة المقاتلين في صفوف الجيش السوري الحر والميليشيات الداعمة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد إحدى أهم القضايا الراهنة لما يكتنفها من تهديدات أمنية قد تمثل أحد مكامن عدم الاستقرار داخل دول الإقليم. ظاهرة قديمة
لا يمكن اعتبار قضية "العائدين من سوريا" صكًّا مستحدثًا لظاهرة إقليمية مستجدة بقدر كونها "إعادة إنتاج" لظاهرة عابرة للحدود ارتبطت بتدفق الجهاديين من دول الإقليم على بؤر الصراع الأكثر احتدامًا لاعتبارات عقائدية وأيديولوجية، أو في إطار صراعات إقليمية تُدار بالوكالة لمصلحة أطراف دولية، حيث يمكن اعتبار قضية المجاهدين العائدين من القتال في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي في أواخر السبعينيات من القرن الماضي إحدى المؤثرات المهمة في هذه الظاهرة، لا سيما في ظل ارتباطها بموجة عاتية من عمليات التنظيمات الإرهابية التي شهدتها مصر خلال عقد التسعينيات. كما اجتذبت الحرب الأمريكية على العراق في عام 2003 عناصر تنظيم القاعدة والحركات الجهادية على امتداد الإقليم إلى العراق لمحاربة الأمريكيين، وقد تسببت عودة تلك العناصر بعد ذلك إلى دولها، لا سيما اليمن ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر، في تهديد حالة الاستقرار والأمن في تلك الدول. بينما ترتبط معضلة "العائدين من سوريا" بتعقيدات الصراع وتداخل أبعاده لا سيما التصدعات المذهبية والقومية بين السنة والشيعة والأكراد، والصدام المستحكم بين التحالفات الإقليمية ذات المصالح المتعارضة، فضلا عن محاولات تصدير الأزمات للدول التي تتماس جغرافيًّا وتتقاطع ديموغرافيًّا مع سوريا، بما يعني أن نهاية الصراع في سوريا، سواء بانهيار نظام الأسد أو بالوصول إلى تسوية سياسية، وعودة المقاتلين من سوريا إلى دولهم قد ترتبط بتفجر موجة عاتية من عدم الاستقرار عبر الإقليم. خريطة معقدة تكشف مراجعة تعقيدات الصراع في سوريا عن خريطة معقدة للمقاتلين الوافدين والوكلاء الإقليميين الذين يسعون لحسم الصراع لصالح أطراف إقليمية معينة، وفي هذا الصدد يمكن رصد عدة مؤشرات كاشفة عن تعقيدات هذا الصراع تتمثل في: 1- تصاعد الاتهامات التي يوجهها رموز القوى السياسية الشيعية العراقية لبعض دول الجوار بتهريب الأسلحة والمتطوعين عبر الأراضي العراقية لدعم الجيش السوري الحر. 2- تأكيد وكالة الأممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، في تقرير لها في 10 ديسمبر الماضي، على نزوح ما لا يقل عن 100 ألف لاجئ فلسطيني في مخيم اليرموك قرب دمشق، إلى لبنان والأردن والضفة الغربية ومصر منذ بداية الصراع في سوريا، وعلى عودة بعضهم مجددًا إلى سوريا لأسباب متعددة. 3- ارتفاع وتيرة عمليات إجلاء المصريين في سوريا عبر الحدود اللبنانية، وخاصة في ظل التقارير التي أشارت إلى مشاركة عدد من المقاتلين المصريين في صفوف الجيش السوري الحر، ومقتل ما لا يقل عن ثلاثة مصريين ينتمون للتيارات الجهادية في مواجهات مع قوات نظام الأسد منذ سبتمبر الماضي. تداعيات مختلفة تفرض قضية "العائدين من سوريا" تحديات فاصلة لدول الإقليم، لما يرتبط بها من تداعيات معقدة قد تؤدي لمتوالية صراعات فرعية تنبثق عن الصراع السوري، كامتداد للتناقضات الحاكمة للمشهد العام علي مستوى الإقليم، وصراعات التحالفات الإقليمية القائمة على اصطفافات مذهبية وعقائدية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي: 1- تصاعد حدة العنف الطائفي، حيث تمثل العراق ولبنان والبحرين واليمن أكثر الدول التي يرجح أن تشهد تصاعدًا في أعمال العنف الطائفي، لما تتسم به من تسييس وعسكرة للطائفية، إذ تمثل أزمات المختطفين على أسس طائفية في لبنان، وأعمال العنف المذهبي في العراق، والحراك الاحتجاجي العنيف للشيعة في البحرين؛ مُحفِّزات لتفجر موجة إقليمية من العنف الطائفي عقب عودة المقاتلين في سوريا. 2- تزايد نشاط التنظيمات الإرهابية، فقد أدت مشاركة عناصر القاعدة والتنظيمات الجهادية في العمليات العسكرية في سوريا إلى إكسابهم خبرات قتالية جديدة ربما يقومون بتوظيفها في دول عديدة بالإقليم، وهو ما ينذر باندلاع موجات عنف إقليمية متصاعدة. 3- اختلال الاستقرار السياسي، إذ ترتبط قضية "العائدين من سوريا" باحتدام الصراع على السلطة وتصاعد الحراك الاحتجاجي على امتداد الإقليم، حيث يحتمل أن تؤدي مآلات الصراع في سوريا إلى اختلال التوازن السياسي الهش في الأردن، لا سيما في حالة حسم التيارات الإسلامية في سوريا الصراع لصالحها، فضلا عن أن تأثير الفصائل الشيعية في لبنان والبحرين قد يتحدد مساره بما سيسفر عنه الصراع في سوريا. 4- تصدع دول الجوار، في ضوء اتساع مساحة النزعات الانفصالية في الإقليم، حيث تتزايد احتمالات اتجاه الأقلية الكردية في سوريا التي باتت تسيطر على بعض أقاليم الشمال الشرقي، إلى الترابط مع الأقليات الكردية في تركيا وإيران والعراق، كما ظهرت مؤشرات عديدة تعزز من إمكانية تأسيس دولة علوية في سوريا بما سيؤدي إلى توطيد دعائم المحور الإقليمي الذي يجمع إيران وحزب الله والقوى السياسية الشيعية في العراق، في مقابل "ثغرة هيكلية" في التماسك الإقليمي للدول العربية لا سيما لبنان والعراق واليمن. وإجمالا، يمكن اعتبار قضية "العائدين من سوريا" إحدى أهم الأزمات التي ستواجهها دول الإقليم خلال المرحلة المقبلة، وهي وثيقة الصلة بتحديات داخلية وتهديدات أمنية متصاعدة مرهونة بوتيرة الصراع الداخلي في سوريا، وهو ما يفرض خيارات ثلاثة رئيسية لمواجهة تلك التحديات: أولها، تشديد الإجراءات الأمنية تجاه "العائدين من سوريا" واللاجئين القادمين منها ومراقبة تدفق المهاجرين إليها. وثانيها، التدخل المباشر لحسم الصراع السوري بتسوية تحقق التوازن بين طرفي النزاع علي غرار السيناريو اليمني. وثالثها، ممارسة ضغوط قوية علي "المحور الإيراني" للكف عن تهديد الاستقرار في الإقليم، وتصدير أزمات الصراع في سوريا لدول الجوار