إذا كان اليمن يأمل بصياغة مستقبل أكثر استقراراً فإنه سيكون بحاجة ماسة إلى الاتفاق على القضية الأساسية المتمثلة في بنية دولته , هذا أمر واضح, لكن هذا لا يعني فرض تسوية نهائية في ظروف يغيب فيها الحد الأدنى من الثقة، والشرعية والإجماع' وسيكون ذلك أكثر مما تستطيع دولة هشة، وبلد مجزأ وطبقة سياسية منقسمة أن تعالجه. بهذا التحذير القوي أصدرت مجموعة الأزمات الدولية تقريرها السنوي الذي خصصته عن معضلة القضية الجنوبية في الحوار بعنوان " قضية اليمن الجنوبي: تَجَنُّب الفشل " والصادر حديثاً وصَّف فيه الأزمة الحالية التي يعيشها الحوار الوطني بسبب عدم التوصل إلى اتفاق حول القضية المحورية وهي القضية الجنوبية. يشرح التقرير عدداً من المشاكل المعقدة في ملف القضية الجنوبية ليس آخرها مشكلة التمثيل في مؤتمر الحوار والذي يقاطعه أغلب مكونات الحراك رغم الضغوطات الدولية الشديدة , لكن – بحسب التقرير- : في النهاية انضمت مجموعة صغيرة من ممثلي الحراك للحوار بعضهم مرتبط سياسياً بهادي (العضو في المؤتمر الشعبي العام) وجميعهم مستعدون للتفاوض على حلول غير الانفصال الفوري ، إلا أن نفوذهم على القواعد الشعبية محدود ومرونتهم التفاوضية مقيدة بشدة بالنظر إلى أن أغلبية الحراك ذات ميول انفصالية. ويضيف : بعضهم يحظى باحترام شخصي لكنهم يفتقرون إلى النفوذ الكافي لدى قواعد الحراك، خصوصاً في المناطق المؤيدة للانفصال مثل الضالع ولحج. إن مكانتهم، داخل الحراك على المحك، من العديد من الأوجه، حيث إنها تعتمد على كسبهم للمزيد من التنازلات أو انسحابهم من المفاوضات.
عوامل معرقلة .... التقرير الذي أعده مجموعة الأزمات الدولية وهي منظمة دولية يصفها مراقبون بأنها تحظى بتأثير على صناع القرار في الداخل اليمني وكذا في الدول الغربية يسرد عدداً من العوامل التي ساهمت في عرقلة حل القضية , أهمها كان الفشل في تنفيذ إجراءات بناء الثقة والتي باتت معروفة بالنقاط العشرين وأضيف لها 11 نقطة من الحوار ولم ينفذ منها سوى الاعتذار الرسمي من الحكومة وقرار هادي بعودة قرابة 800 ضابط وتسوية وضعهم . يضيف التقرير : ربما كان انعدام ثقة الجنوب في مؤتمر الحوار الوطني محتوماً لكن ما فاقم منه كان غياب الإجراءات الحقيقية لتحسين الظروف الأمنية والاقتصادية في المنطقة , رغم وعود الحكومة، لم يتغير الكثير، وهو ما أضعف أولئك الجنوبيين المستعدين للتفاوض ووفر ذخيرة لأولئك الذين يعتقدون بأن الحل الوحيد يتمثل في الانفصال". العامل الثاني كما يرى التقرير هو بالخشية من عودة النظام السابق , فبحسب التقرير : هناك عقبة أخرى تعيق المفاوضات تمثلت في الاعتقاد - وهو اعتقاد قوي بين أنصار الاستقلال الجنوبيين بشكل خاص - أن نخب النظام السابق من الشمال التي أثبتت أنه لا يمكن الوثوق بها تسيطر على العملية الانتقالية. ويوضح التقرير هذه النقطة بالقول : " أدت اتفاقية مجلس التعاون الخليجي إلى تجنب المزيد من سفك الدماء لكن ذلك تحقق مقابل حماية النخب التقليدية (آل صالح وحلفاؤهم في حزب المؤتمر الشعبي العام؛ وخصم صالح الرئيسي، اللواء علي محسن الأحمر؛ وحلفاؤه داخل قبيلة الأحمر والإصلاح)، وهو الأمر الذي ضمن أن يلعبوا دوراً محورياً في إصلاح نفس النظام الذي ساعدوا على بنائه في المقام الأول. هذا ما أدى إلى إعاقة العملية الانتقالية وغذى الشكوك حيالها." " تجزيئ الحراك" كان العامل الثالث الذي رآه التقرير , يقول :لقد ثبت أن تجزيئ الحراك والمنافسة الداخلية فيه شكلت عقبات جدية أمام المحادثات أيضاً, يتكون الحراك، وهو بطبيعته حركة متغيرة ولا مركزية على مستوى القواعد، من عدد كبير من المنظمات والمؤيدين الأفراد , ففي حين أن هيكليته المتحولة جعلت منه حركة احتجاجية رشيقة ومستمرة، فإن هذه الهيكلية نفسها أعاقت بعدة أشكال المشاركة الفعالة في مفاوضات تتطلب وجود ممثلين يتمتعون بتفويض واضح. ويضيف : هناك مشكلة أخرى تتمثل في الفجوة المتنامية بين الجيل القديم من القادة الجنوبيين سواء داخل مؤتمر الحوار الوطني أو خارجه والنشطاء الشباب المحبطين من الخصومات القديمة , وقد كان الإحباط حاداً على وجه خاص في عدن، حيث منع المتظاهرون بشكل متكرر قادة الحزب الاشتراكي اليمني من الجيل القديم من الصعود إلى المنصة والتحدث خلال المظاهرات , في الوقت نفسه، فإن أكاديميين وشباباً ونشطاء في المجتمع المدني يسعون لتشكيل قيادة جنوبية جديدة. على نطاق أوسع، ومع ميل العواطف الشعبية في الجنوب نحو الانفصال، فإن أهمية وشرعية المفاوضين في مؤتمر الحوار الوطني باتت موضع شك. ويختم هذه النقطة : بشكل عام، فإن الصراع على التمثيل، وفراغ القيادة في الجنوب والتصور واسع الانتشار في أن الحراك لا يمثل فعلاً الحركة الشعبية قوض المحادثات ومن المرجح أن يفعل الشيء ذاته عندما تصل الأمور إلى تنفيذ أي اتفاق.
أزمة الحل .... يقول التقرير : ما هو على المحك في هذه القضية هو وحدة أراضي البلاد؛ وكذلك نجاح العملية الانتقالية الهشة , يشكل الاتفاق على بنية الدولة العنصر المحوري في أي دستور دائم وفي أي تسوية سياسية. ويحذرالتقرير: أن من شأن انهيار المفاوضات الجارية حالياً أن يؤدي إلى احتمال استئناف الصراع الأهلي ,وهذا سيعزز دون شك وضع الانفصاليين الجنوبيين المتشددين، ما سيجعل العودة إلى المفاوضات المثمرة أمراً أكثر صعوبة. لكنه يقول: إن البديل عن ذلك-وهو السيناريو الأكثر ترجيحا فيما يبدو يتمثل في تسوية تحظى بدعم محدود حول القضية الجنوبية سيثبت أنها مستحيلة التنفيذ على الأرض في الجنوب المؤيد للانفصال سيشكل مصدراً مساويا للقلق , من شأن تنظيم استفتاء على الدستور في مثل هذه الظروف أن يدفع الحراك إلى مزيد من التشدد ويتسبب في مواجهة بين المتعاطفين معه من جهة والحكومة المركزية، إضافة إلى الدعاة المتحمسين للوحدة , في الحد الأدنى، سيشكل ذلك مخاطرة في تفاقم الاضطرابات السياسية في الجنوب، وهي حصيلة بالكاد تستطيع حكومة مركزية ضعيفة واقتصاد عاجز التعامل معها. بعبارة أخرى، إذا كان فشل المفاوضات الحالية سيشكل كارثة، فإن الاندفاع نحو حصيلة متسرعة لن يكون أقل سوءاً. وفي هذه الفقرة يلخص التقرير ما حصل في الحوار حول هذه القضية وما سيخرج به : رغم ذلك، فإن ثمة عدد اً من الدروس المستقاة , أولاً لم يتم استنفاد النقاشات بأي حال من الأحوال , ثانياً، سيكون ردم الفجوات المتبقية صعباً، وأفضل ما يمكن أن يؤمل من هذا الحوار هو التوصل إلى اتفاق عام يترك تفاصيل جوهرية دون معالجة , ثالثاً، حتى لو خرج مؤتمر الحوار الوطني بتوصيات تحظى بالإجماع حول بنية الدولة، فإن الاتفاق على التفاصيل وخصوصاً تنفيذ تلك القرارات سيمثل تحدياً أكبر.
التحرك إلى الأمام .... في الورقة الأخيرة من التقرير يلخص معدو التقرير عدداً من التوصيات التي بدأوها بالتنبيه إلى إن أكثر ما يمكن أن يؤمل به في هذه المرحلة هو التوصل إلى اتفاق على مبادئ حل مستقبلي، ومن ثم استمرار المفاوضات على التفاصيل ووضع خطة للتنفيذ. يضيف أيضا : وحتى ذلك لن يكون إنجازاً سهلاً. إنه يتطلب عدة إجراءات فورية. أولاً، على الموفدين إلى مؤتمر الحوار الوطني أن يعيدوا تعريف فكرة نجاح مؤتمر الحوار الوطني ويراجعوها ومن ثم يسوّقونها جماهيرياً، وبعبارة أخرى فإن الهدف هو ضمان أن يقوم مؤتمر الحوار الوطني بإطلاق العملية بدلاً من أن ينهيها. التقرير يوصى كذلك اللاعبين السياسيين بالاتفاق على مجموعة من الترتيبات الموسعة التي من شأنها أن توجه هذه المرحلة الانتقالية الإضافية تركيبة الحكومة؛ تأجيل الاستفتاء على الدستور والانتخابات لفترة محددة؛ والخروج بصيغة أكثر شمولاً للمفاوضات حول القضية الجنوبية , وهذه النقطة الأخيرة محورية. ويضيف : إن مجرد تمديد الفترة الزمنية دون تعديل الإطار الحالي للمفاوضات لن يكون مفيداً على الأرجح, حيث لا يزال كثير من الشركاء المعنيين خصوصاً في أوساط الحراك خارج العملية، وحتى على فرض إمكانية التوصل إلى اتفاق، فإن الدولة لا تستطيع تنفيذه دون مشاركة أوسع من الجميع.
ويقترح التقرير عقد النقاشات المستقبلية في الخارج، ربما في الخليج، ودون أي شروط مسبقة،لاجتذاب المزيد من المشاركين، حيث يرى التقرير أن النفوذ الذي تتمتع به دول الخليج خصوصاً السعودية على قيادة القوى في الشمال يمكن أن يساهم في حل انعدام الثقة العميق بين الجنوبيين تجاة الشمال , ويرى التقرير أيضا إن رعاية دول الخليج المشتركة مع الأممالمتحدة يمكن أن تشكل وسيلة لانخراط عدد أكبر من المشاركين، و التوصل إلى حل يحظى بدرجة أكبر من الإجماع , كما يمكن ترجمة الدعم الخليجي إلى تمويل مشاريع اقتصادية. تغيير ديناميكيات التفاوض الذي يرتكز بشكل محوري على التنفيذ السريع لإجراءات بناء الثقة التي تؤثر بشكل إيجابي في الحياة اليومية، وتستعيد الثقة بالحكومة وتفسح المجال للتسوية كما ترى توصيات التقرير الذي يحث الموفدين إلى مؤتمر الحوار الوطني والحكومة وداعميهم الدوليين على أن يضعوا قائمة من الخطوات المرتبة حسب الأولوية للجنوب تضم وتبنى على النقاط العشرين والنقاط الإحدى عشرة, وكي تكون هذه القائمة ذات مصداقية، ينبغي أن تكون مصحوبة بجدول زمني وآليات للتنفيذ، بما في ذلك من سيكون مسؤولاً عن تنفيذها، وكيفية تمويلها ومن يراقبها. وكما بدأ التقرير بالتحذير فإنه يختمه كذلك , حيث يقول : إن تردد الداعمين الدوليين للمرحلة الانتقالية في مناقشة أي توسيع للإطار الزمني أو الترتيبات الانتقالية خلال إجراء المفاوضات لأمر يسهل تفهمه , إنهم يخشون من توفير الذرائع والحجج لتأجيل القرارات والمماطلة، لكن البديل لتأخير محدد لبعض العناصر، خصوصاً الاستفتاء، ووضع خارطة طريق انتقالية جديدة، سيكون في أفضل الأحوال اتفاقاً هشاً، يفتقر إلى الدعم الكافي من القواعد الشعبية والنخب , وستكون النتيجة النهائية على الأرجح ما لا يجب أن يريده أحد، وهو المزيد من عدم الاستقرار وعملية فوضوية لتفتيت البلاد.