* بعد الإطاحة بالملك فاروق والتخلص من الإحتلال البريطاني في أرض الكنانة مصر الحبيبة, على أيدي تنظيم الضباط الأحرار وتشكيل مجلس قيادة الثورة وتغيير نظامها السياسي , ظلت جمهورية مصر الشقيقة بعدها لثلاثة عقود تحت حكم العسكر الذي شرع من فوره بسن قانون الطوارئ الصارم وأنشئ المحاكم العسكرية التي أجازت للنظام الجديد سلب وإنتهاك الحقوق المدنية للمواطن المصري, بقيت حقبة من الزمن تستشري حمى وعدوى التخلص من رموز النظام البائد منتشراً في ذهنيات من أستجدوا على الكراسي, فمن إرهاصات التحور السياسي ألقى بتداعياته على وأد الفرحة الوليدة في نفوس المواطنين بنجاح الثورة وجلاء الاحتلال والملكية, ومنها بقيت مصر وهي إنموذجاً يحتذى بتجربتها السياسية تعيش تجاذبات وتناقضات أكتنفها شيئاً من الإنفتاح الاقتصادي وطغى عليها إفتعالات سياسية متشنجة لحديثي عهد بالسلطة والمراكز السيادية في مصر وتسببوا بعقلياتهم المتقوقعة في بوتقة ضيقة من حماسة الثورة ورغبة جامحة في الإنتقام من كل ماهو جميل في البلد, تحت مسمى التخلص من رموز النظام البائد, فملوا كؤوسهم الفارغة وإنتقلت إحاسيسهم وشعورهم الإنفعالية تطبيقاً سلبياً ووهماً مرسوماً لبداية خطواتهم العملية ضناً منهم بأنهم صنعوا تاريخاً جديداً, تجلى في سعيهم بتغيير كل من يذكرهم بالعهد السابق, فلما أعتلى مناصب الإجهزة الأمنية قادة جدد شباباً دفعهم حماسهم منتشين بزهو النصر وأشعلتهم فوران لهيب الثورة وحماسها فأملوا السجون بالمعتقلين الأبرياء الذين " لا ناقة لهم ولا جمل بنظام باد ولا بنظام آت " فكانت ذرائعهم مبررة بأنهم يريدوا أن يخدموا البلد, وشكل لهم كل من أرتبط أسمه أو كل من لمع نجمه في عهد الملك وأعوانه وحاشيته ورموزه قلقاً مفرطاً لا يتناسب مع الواقع السياسي المتغير, وذات يوم ضج الشارع المصري بعدما منعت أغاني كوكب الشرق الفنانة أم كلثوم من البث في إذاعات مصر وحوربت نتاجاتها الفنية وضيقت الخناق على الكثير من المبدعين والساسة والفنانين, وصل النبأ إلى مجلس قيادة الثورة, فباشر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بنفسه التحقيق عن المسؤول في وقف إذاعة أغاني أم كلثوم التي يحبها الناس ويعشق فنها الملايين, فسأله لماذا أصدرتم هذا القرار؟. فرد عليه لأنها من رموز النظام البائد؟. ضحك الزعيم جمال عبدالناصر وقال: فعليكم أن تصدروا أمراً بإزالة أهرامات الجيزة؟ إندهش الضابط – وكل صناع القرار آنذاك هو في الأصل ضابط- مستفسراً مش ممكن مستحيل ولكن ليش ياريس؟ قال عبدالناصر: لأن الاهرامات من بقايا نظام بائد لأربعة آلاف سنة!!. * في مقال سابق فهم البعض خطئاً مارمينا قصده بالتغيير المنشود وتغيير رموز النظام البائد, فكنا نقصد بتلك الرموز السيئة التي لم تستوعب إيديولوجيات المرحلة الحالية ولاتريد أن تخرج من خندق الحزبية وأفتقرت إلى المحفزات والديناميكية بما يتلائم مع متطلبات الوضع الراهن, ولم تفتح أبواب المعاملة الحسنة مع جميع الأطراف بما يخدم المصلحة الوطنية والمواطن, وأساءت إلى الوظيفة العامة وإستغلتها للتكسب الذاتي والمحسوبية ومضايقة والإضرار البالغ لممتلكات وحقوق الغير, وظلت تُدين بالولاء للأفراد والأحزاب على حساب الآخرين, فكل ما في الكون يتغير ولا دائم إلاّ وجهه الله, هذا ماقصدناه, ولكن للأسف ما فسّره البعض شيئاً يختلف مع ما قصدناه -سامحهم الله -, أما النظام البائد بمفهومه الحقيقي ليس بتغير أفراد من مواقعهم ولا بتغيير رؤساء ولا بتغير نظام حكم, ولكن النظام البائد, هذا رأيي الشخصي قد يختلف معي الكثيرين ولكني أعتقد جازماً أنه ذاك النظام الذي فشل في تلبية طموحات وتطلعات الشعوب وعجز عن التعامل بمسؤولية مع جميع الخصوم سياسيين كانوا أو غيرهم, فلا يكون الحاكم حاكماً, إلا عندما يكون هناك شعب يطلب منه العدل والإنصاف ووجود معارضة قوية تنتقد حكمه وقراراته الخاطئة, فهذه فلسفة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه, حينما قال: "أن أخطأنا فقومونا, قالوا الصحابة وأن لم ترجع عن خطئك, قال عمر: فأرفعوا علينا السيف", أما الوطن فهو مليء بالشرفاء والمخلصين من المدراء والقيادات الناجحة التي عاصرت جميع العهود وبعضهم من عهد السلطان القعيطي وهم مازالوا قادرين على العطاء والتغيير وفقاً لما تقتضيه مصلحة العامة ولما تنشده الجماهير من الإصلاح والقرارات الصائبة ولما من شأنه أن ينفع الناس, فنحن لدينا قيادات ورموز بالملايين في هذا الوطن وعلى رأسهم الأخ الرئيس عبدربه منصور هادي الذي صوّت له ملايين الناخبين وحاز على دعم المجتمع الدولي والإقليمي فمن غير المعقول أن ندّعي أنه من نظام بائد, وهناك قيادات كبيرة لها شعبية واسعة تعدُّ قيادات شرعية ومرجعية تاريخية وأصحاب القرار الأول تمثل طوابير عريضة من جماهير الجنوب, وتحمل في شخصياتها وأسمائها قضايا كبيرة فهم رموزاً حاملين ملفات عظيمة وجليلة تحمل أسس وأهداف ناضلوا سنوات طويلة من أجلها, كثوابت ومبادئ وأهداف, وهم ممن عاصروا أنظمة متعاقبة سادت ثم بادت , فبهم يهتف ملايين الجماهير وعليهم يعوّل الكثيرين لمستقبل كفاحهم صوب تقرير المصير حسب مبادئ وأهداف القضية الجنوبية , ونذكر لا الحصر الرئيس علي سالم البيض والرئيس علي ناصر محمد والرئيس حيدر أبوبكر العطاس وزعيم الحراك الجنوبي المناضل حسن أحمد باعوم , فهم بلاشك عاصروا عهوداً لأنظمة مختلفة , ولكنهم قيادات وطنية مخلصة وشريفة ومرجعيات تعود لهم شرعية صناعة القرارات السياسية لمستقبل القضية والحراك الجنوبي, وسيظلوا راسخين وشامخين وثابتين في أعلى هرم التمثيل السياسي للجنوب , كإهرامات مصر وجبال شمسان, وبتغييرهم تطمس هوية, ويلغى إرثاً ويمحى تاريخاً نضالياً ويضيع حقاً شرعياً إمتد إلى عشرات أو ربما إلى مئات السنين بوصفهم الشركاء الأساسيين في التوقيع على إتفاقية الوحدة.. والله من وراء القصد,,