سبق أن ذكرنا أنه يمكن أن نميز في الإسلام ثنائية في موقفه تجاه التخطيط العائلي. فهناك موقف يدعم الإكثار من التوالد، وآخر يحبذ الإقلال منه. أما العوامل التي تقرر أي الموقفين يؤخذ به في بيئة معينة، فإنها قد تشمل الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصحية لمجتمع إسلامي معين، كما تشمل الأهداف التي يضعها هذا المجتمع لنفسه. مثلاً، يتضح من الشكل رقم (9) أنه إذا كانت الأوضاع من النوع السائد في المجتمعات الإسلامية التقليدية، فإن ارتفاع نسبة المواليد يصبح ضرورياً للتعويض عن كثرة الوفيات ولمساعدة المجتمع الإسلامي على نشر تعاليمه. ومن جهة أخرى نلاحظ أن الزيادة السكانية إذا أصبحت تشكل عائقاً في وجه النمو الاقتصادي الوطني والازدهار العائلي، فإن المبرر للإكثار من المواليد ينتفي. وفي مثل هذه الحالة ينص الإسلام على تحديد حجم العائلة. النموذج الأول: النموذج التقليدي إن النموذج الأول لمخطط الإسلام للتوالد يحبذ استمرار التناسل بنسبة عالمية، كما يفضل العائلة الكبيرة عن طريق نظم اجتماعية وعائلية مختلفة. وهذا النموذج يناسب المجتمعات السابقة للثورة الصناعية، غذ كانت هذه المجتمعات تمتاز بظاهرات سكانية من الأنماط السابقة للنمط الحديث، أو تلك المجتمعات التي تمر في عصر الأوبئة والمجاعات في طور انتقالها الوبائي. كذلك يناسب هذا النموذج المجتمعات المسلمة التي يتهددها خطر الإبادة. وفيما يلي تلك الجوانب من الشريعة والممارسات الإسلامية التي فسرت على أنها مؤيدة للإكثار من التوالد، أي يمكن تصنيفها مع النموذج الأول. أولاً: الإنجاب وانتشار الإسلام يدعو الإسلام، مَثَلُه في هذا مثل الأديان الأخرى، المؤمنين إلى زيادة عددهم ليعمروا الأرض وينشروا كلمة الله. وبما أنه قد ينشأ صدام خلال عملية نشر الدين، فإن المحاربين كانوا موضع ثناء وتقدير، كما أن الشهداء كانوا موضع إكرام وتبجيل. وهذا الجانب في الإسلام ربما عزز أيضاً الاتجاه إلى تفصيل البنين، وهو قيمة اجتماعية تبنتها المجتمعات السابقة للإسلام لعدة قرون. وفيما يلي بعض الآيات والأحاديث التي كثيراً ما يستشهد بها في هذا المجال: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) الكهف/ 46. ((تزوجوا الودود الولود)). ((تناكحوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)). غير أن هذه القيم لم تكن مطلقة، حتى في الأوقات التي كانت فيها الأوضاع البيئية قاسية وتبرر سيادة النموذج المحبذ للإكثار من الإنجاب. فالآيات المنزلة والأحاديث الشريفة تحدثت أيضاً عن نوعية الحياة بعبارات فسرت على أنها تنسجم مع فلسفة التخطيط العائلي. فالعدد الكمي، مثلاً، لم يكن الهدف الوحيد وراء حث المؤمنين على ((التناكح والتناسل)). فليس من المعقول أن يباهي النبي بأمة إذا كانت ضعيفة ومريضة وجاهلة ومتخلفة، بالغاً ما بلغ تعدادها. في هذا الصدد جاء في القرآن الكريم: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) المائدة/ 100. ومع أن الإسلام يقر بالقيمة العالية للمال والبنين، فإنه لم يعتبر المال والبنين قيماً مطلقة. فالآية القرآنية الكريمة التي تنادي بهذه الأهداف في الحياة، تذكر المؤمنين بأن ثمة قيمة أعلى يجب أن نسبغها على حياة أكثر صلاحاً وخيراً: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا) الكهف/ 46. (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) سبأ/ 37. ثانياً: الكثرة في النموذج الأول نسبية ومشروطة وليست مطلقة إن الكثرة التي دعا إليها الإسلام لا تنشد لذاتها، ولكن لما يترتب عليها من صلاح الأسرة والمجتمع والأمة. فإن كانت الكثرة في صالح لمسلمين فهي مرغوبة، أما إذا كان من شأنها أن توهن من قوة الأمة، وتجلب لها المتاعب في حياتها، والحرج والضيق في القيام بأعبائها، فإن مرونة الدين لا تقف حائلاً دون التنظيم، بل إن التنظيم يصبح مطلوباً في هذه الأحوال. وقد ذكر القرآن أن كثرة المسلمين لا تغني عنهم شيئاً إذا كانت مصدراً للغرور والتواكل فقد تصبح مصدراً للضعف والهزيمة. (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم، فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين) التوبة/ 25. وذكر الرسول (ص) كثرة للمسلمين تكون كثرة واهية متداعية ضعيفة غير متماسكة، لا تستطيع أن تقف أمام مطامع الأمم. ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟، قال: لا. إنكم يومئذ لكثير، ولكنكم كثرة كغثاء السيل)). ثالثاً: مارس المسلمون تحديد النسل تحت النموذج الأول من الثابت أن المسلمين مارسوا العزل واستعمال حاجز لمنع الحمل في أيام الرسول (ص) وفي كل العصور الإسلامية بعد ذلك بالرغم من ارتفاع معدل الوفيات خصوصاً بين الأطفال وبين المجاهدين. ومن الدواعي لتنظيم النسل في العصور الأولى: أ) المحافظة على صحة المرأة التي قد تضرها كثرة الحمل. ب) المحافظة على جمال المرأة، فقد تترهل من كثرة الحمل، وذلك رأي حجة الإسلام الإمام الغزالي. ج) المباعدة بين حمل وآخر وتجنب (الفيل). د) وجود مشقة مادية لا تسمح بإعالة الكثير من الأطفال. رابعاً: أطباء الإسلام يدرسون طرق منع الحمل ويدخلون هذا العلم إلى أوروبا نجد أن كتب الطب في العصور الإسلامية تحتوي على أبواب لمنع الحمل. وقد أدخل أطباء الإسلام هذا العلم الجديد إلى أوروبا إذ ظلت كتب الطب الإسلامية تدرس في أوروبا حتى منتصف القرن السابع عشر. ومن هذه الكتب كتاب القانون لابن سينا، وكتاب الحاوي في الطب لإسماعيل الجرجاني، والكتاب الملكي لعلي بن عباس، وكتاب الإرشاد لابن الجامع، وتذكرة داود الأنطاكي. النموذج الثاني: أو النموذج الانتقالي وهو النموذج الذي يلزم تطبيقه عندما يحدث انخفاض غير مؤقت في معدل الوفيات كما حدث في المجتمعات الإسلامية عقب الحرب العالمية الثانية حيث انخفضت معدلات الوفاة بين الأطفال الرضع، والأطفال دون الخمس سنوات، والشباب والأمهات على وجه الخصوص. ومع هذا الانخفاض لم يعد هناك داع لإنجاب عشرة أطفال على أمل أن يعيش منهم ثلاثة أو أربعة. فمع التقدم الصحي (والإسلام يدعو إلى الأخذ بالأسباب بما في ذلك الرعاية الصحية) تحسنت إلى درجة كبيرة احتمالات بقاء كثير من الأطفال على قيد الحياة. وتحت هذا النموذج يلجأ المسلمون إلى استعمال وسائل منع الحمل بطريقة منظمة للدواعي الآتية من ناحية الأسرة: أ) للتحكم في حجم الأسرة حسب الطاقة المادية للأب. ب) للمحافظة على صحة الأم وجمالها. ج) للمحافظة على السعادة العائلية التي تنغصها في العصر الحديث المشاكل الناتجة عن كثرة الأطفال وازدياد متطلبات كل طفل، وارتفاع مستوى المعيشة. د) لتمكين الأسرة المسلمة من تنشئة أطفالها تنشئة إسلامية صحيحة وهذا يستدعي تخصيص الأوقات والجهود لهم، ولا يمكن ذلك إذا كان عدد الأطفال كبيراً. يقول الرسول (ص): (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية، وألا يرزقه إلا طيبا)). ه ) المباعدة بين حمل وآخر للمحافظة على صحة الأم والطفل. و) مراعاة الشؤون الوراثية والجنينية لقيام جيل صحيح العقل والجسم، ولا يحدث ذلك إلا بتقليل الحمل. أما من ناحية المجتمع المسلم فإن تنظيم النسل لا ذم له (إلا في حالات التهديد بالإبادة) وذلك للأسباب الآتية: أ) التحكم في معدل زيادة السكان بحيث يسمح للنمو الاقتصادي والنهوض بالجماهير.