متى يظهر المثقف الذي يعطي للثقافة اليمنية وظيفة اجتماعية نقدية ؟ فالمثقف ليس من مهمته أن يملأ الفراغ أو يضيف إليه، فحسب، بل مهمته الكشف عن مبدأ الصراع في معانيه، وإظهار الكيفية التي ينتج بها هذا الصراع، وعلى هذا الأساس، فإن المثقف هو الذي يمتلك القدرة على كشف القوى الفاعلة داخل المجتمع، ويستطيع أن يميز بين القوى التي تشد إلى الخلف والقوى التي تدفع إلى الأمام، والمثقف المتجرد من التعصب لهذا الطرف أو ذاك يكون قادراً على معرفة القوى المتصارعة في المستقبل فينحاز بالضرورة إلى قوى التقدم. وإذا أراد المثقف اليمني أن يخرج من الشرنقة التي وضع نفسه داخلها، فعليه أن يتساءل : من أين جاء التخلف، وماهي وسائل تجاوزه؟ هذا هو السؤال الأساسي، الذي ينبغي الإجابة عنه، ولا شك أن هناك إجابات متعددة تنطلق من حقوق المواطنة المتساوية وتتوقف عند تأويل النص الديني والفصل بين العلم والدين، فالمثقف مطلوب منه تغيير المجتمع واخراجه من إسار الانغلاق الديني والانطلاق نحو الحرية الفكرية. لن يكون المثقف مثقفاً ما لم يحرر المجتمع من قيوده المتوارثة وما لم يحرره من ثقافة الفقر، التي لا تفسر الظواهر بأسبابها الموضوعية، فنحن إزاء ثقافة إسلامية اطمأنت إلى اختزال متوتر، ترجع المجتمع إلى النص الديني، ويختصر الدين إلى تأويل وحيد، وتختزل التأويل إلى فرض يتلفع بالقداسة، ونتيجة لذلك ظهر خطيب الجمعة وبرز كقناع لنسق مؤسساتي له قواعده وأصوله وأعرافه، أي له جملة الصفات التي تسبغ عليه التعظيم والتبجيل، وهو لا يقدم معرفة حقيقية بقدر ما يدافع عن المكانة التي وصل إليها.. هذه الثقافة تمنع المريد من الحصول على المعرفة إلا عن طريق الشيخ : «فمن كان معلمه كتابه، كثر خطأه وقل صوابه» لذا لابد أن يظل ملازماً للشيخ، بل ومنقاداً له في أموره، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره.. ويبالغ في حرمته «لحوم العلماء مسمومة ويتقرب إلى الله بخدمته، ويصبح ذله لشيخه عز، وخضوعه له فخر، وتواضعه رفعة، هكذا هي ثقافة الجامع تجعل المريد يلغي ذاته أمام شيخه وهنا يتخلى المرء طائعاً عن حريته ويلغي فكره ويأخذ المعرفة بلا سؤال. إن سلطة شيخ القبيلة وشيخ الدين تساوي سلطة الحقيقة التي يشخصها هذا الشيخ أو ذاك وهنا تكون سلطة هذا الشيخ تساوي سلطة الحقيقة وإذا ناقشتها فأنت خائن للدين. إن ما يجري داخل الثقافة اليمنية هو نوع من الاقنعة التي تجري في علاقة دائرية تعيد انتاج الأسياد والعبيد بطريقة غير مباشرة، حيث يقوم مثقفو اليوم بنقل ممارسات السيد قبل أن ينقلوا ثقافته، وهكذا أصيب المشهد الثقافي بمثقفين يخضعون بإتقان إلى من يقمعهم ويقمعون من هو أدنى منهم، ولذلك فإن زمن المثقف المستبد في اليمن يتواتر في لعبة مزدوجة يمثل فيها دور السيد ودور العبد معاً. ماذا نتوقع من مثقف تعين بمرتبة معرفية اجتماعية سعى إليها وتوسلها، إنه لا شك سيدافع عنها، وسيمارس أعمالاً تعيد انتاج هذه المرتبة وتجدد الامتياز الذي يبحث عنه. مازال خطيب الجامع هو الماسك بزمام المشهد الثقافي والموجه له : ،فهو يرى أنه لا يمكن تحقيق الصحوة إلا بالعودة إلى زمن الخلافة الراشدة، وهذا الخطاب يفرض مواجهة القضايا المعاصرة. أمام المثقف اليمني أربع قضايا عليه مواجهتها إذا أراد الدخول في المستقبل وهذه القضايا هي : المجتمع المدني، الذي يساوي بين البشر في الحقوق والواجبات بمعزل عن الدين ولن يتحقق ذلك إلا بإصلاح ديني يتواكب مع التجربة الديمقراطية ويعترف بحق الاجتهاد والفصل بين السياسة والدين، أما الأمر الأخير فهو تحرر المرأة، ليس بوصفه قضية مساواة، بل بوصفه قضية اجتماعية وقومية. على المثقف أن يسعى إلى بناء ثقافة سياسية جديدة تسمح ببناء وعي جديد بالمجال السياسي وبعلاقات السلطة داخل المجتمع، ولا بد لهذه الثقافة أن تمتلك تصوراً لعملية الصراع السياسي القائم وتحوله من صراع مادي إلى منافسة اجتماعية سلمية تقوم على إعلاء مبادئ التوافق والتراضي لهذا الصراع وتحريره من معنى العنف الذي يقود إلى الحرب، واعطائه معناه الحقيقي بوصفه يقوم على المنافسة المدنية النظيفة ويساعد على أخذ الحقوق وإدارة التوازن بين المصالح. هناك أشياء تهدد المجتمع وعلى المثقف أن يتنبه إليها حتى يتناولها ويشير إليها، بصورة تخرج من حيز الوعظ والنمطية، إننا أمام واقع يحارب العقلانية ويرفض الحوار. إن المثقف الذي نبحث عنه، ليس شخصاً سقط من العدم، بل إنه خير الوارثين للقيم التي لا تدين للأخلاق ولاتتاجر مع الأيديولوجيا وانما تقف وحدها في مفازة التحدي لخلق وإبداع المستحيل، وما قيمة وصول الإنسان إلى القمر مادام لم يحقق العدل على الأرض ؟! إن الثقافة التي ننشدها هي التي تكمن في التدقيق وليس في التحقيق، بحيث يكون هذا المثقف الذي نشده هو الجسر بين المعنى واللا معنى وبين المحدد والممتد بحيث يكون هذا المثقف هو ربان سفينة نوح الثقافية لا مجرد أحد ركابها، أنا لا أحاول أن أعلم أو أنقل رسالة ما، لأن القارئ يمقت ذلك.