تختزن الذاكرة ذاكرة كل واحد منا قدر معين من المعلومات والمفاهيم تختلف في حجمها وأهميتها من شخص إلى آخر وتصقل هذه المعلومات التجارب والإطلاع والمتابعة والمشاركات في الندوات وفي الاجتماعات وحضور الفعاليات المختلفة. وفي مواقف عديدة تعرف عن محدثك انه واسع الإطلاع ممكن ان تستفيد منه بمعلومة أو مشورة. وأنا أمنى نفسي دائما أن يشاركني أحدا في مخزون معلوماتي البسيطة ويصحح ما أود قوله هنا, وقد رسمت الحيرة في وجهي عدة علامات استفهام عما يجرى على ارض الوطن اليمنى الغالي من تكرار للدوران الممل حول المعصرة، واشعر أنني ذاك الجمل المعصوبة عينيه خلق فقط ليقطع المسافات الطوال في دائرة ضيقة لا تشرق عليها الشمس أبدا, لذلك أمهلوني قليلا من الوقت لأفرغ لكم مكنون خواطري التي حاولت تركيبها مرارا على كل ما يجرى ولكني في كل مرة تصدمني التناقضات أقول: خلال خمسون عاما من تاريخ العمل السياسي في اليمن تكونت في اليمن مدرسة سياسية كبرى من غير فصول, إذ يمكن للفرد أن يتعلم السياسة في اليمن في سبعه أيام من غير معلم ثم يفتى في الشئون السياسية وحتى الدينية ويكون حزبا ويصدر صحيفة, ويعارض ويكون له صوتا يساوم على بيعه أو يتحالف به مع الغير. رأينا كيف تبادل السياسيون الأدوار فيما بينهم واخذوا يتناقلون مواقعهم من اليمين إلى اليسار، ومن الشرق إلى الغرب، ومن الاعتدال إلى التطرف، ومن الحوار إلى الاعتصامات، ومن التهديد إلى الإرهاب, ومن الطاعة إلى العصيان وهلم جرا. وخلال كل هذه الفترات ما الذي جرى!؟ تكون أيضا لفيف من المشاهدين والمحايدين تمثلوا في شخصيات اعتباريه مرموقة ودينية وتجارية وطنية زاهدة رفضوا الانجرار خلف ألاعيب السياسة والفوضى العارمة واعتبروا ذلك شيئا من المراهقة والضياع من شانه جر النكبات والمآسي على البلاد طويلا، وثبتت كل الوقائع على الأرض فيما بعد وصدقت أقوالهم وسلامة مواقفهم هؤلاء المعترضون المحايدون كانوا أوفر حظا من غيرهم إذ قالوا أن ارض الله واسعة وهاجروا إلى مشارقها ومغاربها واستقر بهم الحال وطاب لهم المقام حيث ما أرادوا واخذوا يراقبون ما يحصل في الداخل من مآسي وآلام عجزت كل الأقلام والكتب عن حصرها إلى يومنا هذا!! الدول المجاورة المحافظة لليمن خافت أن يصلها نصيبها من بلل السياسة اليمنية وخافت على أبنائها أن يتعلمون شيئا من الضياع السياسي وتتأثر أفكارهم بالمعتقدات المستوردة التي اخذ اليمنيون يتغنون بها ويصيغون أشعارهم ومؤلفاتهم الغنائية والأهازيج الشعبية والثقافية من اجلها، حتى تطورت فصارت ذات صبغة مذهبية ودينية وتحولت أيضا إلى صراعات دموية طاحنة تتوقف تارة وتنشط تارة أخرى لتحصد المزيد من الأرواح في كل عام. ومن هنا عرفت اليمن بأنها دولة عديمة الاستقرار لأسباب سياسية حتى إشعار آخر، وكتب على بواباتها ممنوع الاقتراب بالنسبة للجيران حتى لا نعديكم! بريطانيا جعلت من اليمن حقل تجارب أثناء احتلالها للشطر الجنوبي لمدة تزيد عن مائة عام إلى ان قررت الرحيل عنه قبل أربعين عاما استطاعت بريطانيا أن تجرب عليه أيضا خديعة الهروب من الالتزامات ألقانونيه نحو مستعمرات التاج البريطاني، وقررت الرحيل عنه بعد أن أشعلت حربا بين زملاء السلاح اليمنيين أنفسهم وسلمت للفريق الآخر السلطة من غير غطاء مادي يكفى للأنفاق على الحكومة الوليده عدة سنوات ولا برنامج إداري متكامل.. فهل في مقدورنا ان نطالب بالتعويض؟
وجاء الاتحاد السوفيتي بعد ذلك وعمل الروس من الجنوب حقل تجارب أيضا لإيديولوجياتهم ألاشتراكية ونظرياتهم الماركسية، وكيف تحكم الشعوب بالقبضة الحديدية، وتخسر مقدرات الأوطان للحزب الواحد. وأشاعوا بين الناس الرهبة، وأن "لا صوت يعلو فوق صوت الحزب".. وتركوا البلاد تئن تحت وطأة الديون الكبيرة وترسانة هائلة من الأسلحة والمعسكرات من غير مرفق إنتاجي واحد.. فهل نطالب بالتعويض؟ وسعت دول النفط المجاورة والدول الغربية لمواجهة المد الشيوعي وجعلت من شمال اليمن سلة غارقة بالمساعدات المالية والأسلحة والنفوذ القبلي وسلطة المشايخ وتجريد الدولة من مقومات دوله حتى لا ينقلب على كرسي الحكم مراهق ويلحق فيهم الأذى، ومن غير أن يؤسسون مصنعا أو حقلا إنتاجيا أو مردودا اقتصادي عام، أو نظام إداري سليم.. فهل نطالب بالتعويض؟ وأخيراً جاء الأمريكان يجربون ويفرضون على اليمن الديمقراطية على النمط الغربي، وكيف تجعل من الشعوب ان تعيش في حالة فوضى وضجيج كاذب الهدف الحصول على اكبر قدر من الامتيازات والتسهيلات ألاقتصادية واللوجستية في غفلة من إرادة المراقبين والوطنيين باسم الحرية وحقوق الإنسان، وهكذا وصلت أمريكا إلى اليمن عن طريق صهوة الجواد الديمقراطي، وجعلت منه بوابة تملي من خلاله شروط تغيير أنظمة الحكم في البلدان المجارة بالمفهوم الديمقراطي اليمنى، وإخضاعه إلى أسلوب دنيء للابتزاز والمساومة على اقتصادياتها ونهجها الإسلامي المتوارث.. فهل نطالب بالتعويض؟ وكان اليمن حظه العاثران يكون "بعبع" المنطقة عبر كل العصور، ولم أعد أعرف ما معنى الثوابت؟ ما معنى: الله، الوطن، الثورة؟ ما معنى: الثورة، الجمهورية، الوحدة؟ ما معنى: بالروح بالدم نفديك يا علي؟ نحن اليوم قادمون على مرحلة انتخابات نيابية جديدة وفي الكواليس خطط سرية لتعديلات دستورية جديدة من شأنها تفصيل الثوب على مقاس الحزب الحاكم والشلة الحاكمة، وإحداث التواء على الديمقراطية من جديد التي قيل أن مقوماتها الشفافية وحرية التعبير.. ومن هنا سنسمع عن تحالفات جديدة لدكاكين الأحزاب العديدة، وبسطات الصحف المبعثرة في كل مكان, وتظل عين المراقب الوطني المهاجر تراقب ما يجرى على أرض الوطن من غير توجه تنموي ولا عمل اقتصادي منتج لسد رمق الجوع والفقر والمرض على كاهل الآمة.. فهل نطالب بالتعويض؟ لسان حالهم يقول: لقد جربوا حكم الثوار.. وجربوا حكم العسكر.. وجربوا حكم الفلاحين.. وجربوا حكم الصايعين.. وجربوا حكم المشايخ.. وجربوا حكم القضاة.. وجربوا حكم الإسلاميين.. وجربوا حكم الفسدة.. وجربوا حكم الجزارين.. ماذا تبقى إذن، فمتى يأتي دور الصالحين!؟ لم يتبق سوى شريحة التجار؟ أو هم شريحة المغتربين؟ أم هم شريحة لم نعلمها بعد من الأكاديميين الصادقين؟ أم ملائكة الرحمة يأتون إلينا من السماء بعد طول العناء؟ [email protected]