نفس الأسئلة تشغل بال الكثيرين دائما: لماذا يصر الطبيب اليمني على إعطاء المريض جرعة جلوكوز دون ان يسأله ان كان مصابا بالسكر؟ ولماذا نجد موظفا في مركز كبير لا يستطيع ان يقول كلمتين على بعض في اجتماع مهم؟ ولماذا يصر طالب الماجستير(ومعظم شرائح الشعب) على ان كلمة "لكن" تكتب "لاكن"؟ ولماذا نجد المهندس في بلادنا يخطئ في حسابات بسيطة وبديهية؟ تكثر الأسئلة عن عدم الكفاءة لدى الكثيرين ممن يفترض فيهم أداء مهام جسيمة، ومن البديهي ان هذه الكوادر هي التي يعول عليها في تنمية أي بلد.. إذا ما المشكلة؟؟ المشكلة تكمن ببساطة في صفوف مدرسة تتكون من طابقين في عمارة سكنية ويدرس فيها أساتذة يحملون شهادة "أقارب المدير" وتدرس فيها مناهج يتم حشرها في عقول الطلبة وتنسى فور انتهاء الاختبار لتصبح مجرد ذكريات مبهمة وتمنح شهادات لطلابها وفقا لدرجاتهم العليا في دفع الرسوم أو القرابة أو المعرفة الطيبة.. وتكون النتيجة جيل بأكمله يعتقد ان الثورة كانت في 14 فبراير، "ولذلك يحتفل به كل عام" ويؤكد لك على ان المستقبل لن يكون "إلى" في أفضل حال!. أتحدث هنا عن المدارس (ليس كلها وإنما معظمها) وخصوصا المدارس الاستثمارية الخاصة والمشاكل التي تعاني منها ابتداء من المناهج المدرسية التي تحتاج إلى الكثير من التطوير والتغيير لتتواكب مع أساليب التدريس الحديثة، وهي مشكلة اكبر من ان تحل بفترة بسيطة وانتهاء ب"دوامة الرعب والدم والدموع" اختبارات الثانوية العامة.. تعاني المدارس في بلادنا من مشاكل ضخمة تؤثر في الشيء الذي يجعلنا نبتسم في أمل برغم كل شيء، فهي تؤثر في الأجيال القادمة في شباب الغد القريب, فمشاكل تلك المدارس يعرفها كل أب يدرس أبنائه في مباني لا تصلح بأي شكل من الأشكال ان تكون مدرسة.. هناك مثلا مشكلة أسلوب التعليم وهو يعتمد بالدرجة الأولى على حشر عقل الطالب بالكثير من اجل غاية واحدة هي النجاح في الاختبار فمن المدهش ان تجد مدارس تطالب طفل في السادسة من عمره بحفظ أذكار الصباح والمساء وأناشيد والحروف الأبجدية العربية والانجليزية والفرنسية ولا مانع من حفظ أسماء سكان الصين وأرقام تلفوناتهم!! ولكم هو محزن منظر الطفل الصغير وهو يجاهد في حمل حقيبته الممتلئة بالكتب وقد انحنى ظهره ووشت ملامحه بالإرهاق والتعب غير مدرك لسبب هذا العذاب!! وبرغم ان الدراسات العلمية أثبتت خطأ هذا الأسلوب إلا ان المدرسين يصرون على ان "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر" وهم مصممين على النقش بكل عنف على هذا الحجر الصغير المسكين! مبنى المدرسة أصبح له مفهوم واحد وهو ارخص مبنى للإيجار وينتج عن هذا صفوف ضيقة يتزاحم فيها الطلبة ليكون كل همهم أثناء شرح خريطة اليمن هو التمكن من اخذ شهيق آخر, وأصبحت قضايا كالملعب الرياضي وصالة الموسيقى مجرد أساطير يتحدث عنها الطلاب بين مشكك ومؤكد على وجودها في العصور الغابرة, يدير المدرسة فعليا التسيب واللامبالاة فالطلبة لهم كامل الحرية في التواجد في الصف أو الساحة أو حتى في الشارع.. والعلاقة مع المدرس أو المدير لم تعد علاقة الاحترام بل علاقة "مشيني وامشيك"، والأخطر من كل هذا موقع بعض المدارس والتي تجعل من خروج الطلاب في وقت انتهاء الدوام "خصوصا الأطفال" مغامرة حقيقية لاختراق الشارع المكتظ بالسيارات لا تجد حلا من قبل الإدارة إلا التعليق في حكمة: "عيسلم الله". أصبح من الطبيعي ان تجد رجل أعمال ذكي يقول لك في ثقة:عندي لك مشروع ذو أرباح هائلة ولا يحتاج لأي خبرة يعني باختصار "عرطة" وعندما تسأله ما هو هذا المشروع ال"عرطة" يجيبك بفخر: مدرسة خاصة! ولذلك تجد رجال الأعمال يحتلون مكان رجال التعليم، فتجد شيخا مديرا لمدرسة لا يناديه الطلبة فيها إلا "يا شيخ"!! وهو حاصل بجدارة على الإعدادية فقط! وتجد تاجراً فشل ابنه فشلا ذريعا في الدراسة يفتح مدرسة ويعين نفسه مديرا وابنه الوكيل!! وتكمن المشكلة هنا في النظر إلى المدرسة على أنها فقط مجرد استثمار "وهو والشهادة لله استثمار ناجح جدا" يقوم على سياسة الابتزاز العاطفي: سنوفر لابنك تعلم اللغات وسنوفر له فصولا اقل ازدحاما وسيكون هناك حصص رسم (تخيل)! وأيضا الابتزاز المادي من الرسوم التي تشعر ولي الأمر ان ابنه يدرس في أكسفورد (وهو ما يشكل كابوس سنوي للآباء يجب على الوزارة ان تضع حدا له)، إلى الزي المدرسي إلى الرحلات إلى.. إلى.. وفي الأخير فالمشروع لن يكلف إلا مبنى عليه اسم فخم، وان أردت "زبائن أكثر فاجعل الاسم بالانجليزية!! أما الثانوية العامة "دوامة الدم والرعب والدموع" فهي المأساة العظمى فقد تحولت من شهادة بأن الطالب يفهم شيئا ما إلى أداة كبيرة للتعذيب و"الحلبطة" بالنسبة للطلبة، وتجارة رابحة للأسف الشديد لبعض المراقبين والمدرسين, فليس منطقيا ولا إنسانيا كل ذلك الضغط النفسي والفكري والعصبي على الطالب..!! ومن جهة أخرى فان الطالب ومنذ أول يوم دراسي غرس فيه ان المهم ان ينجح بمعدل، أما قضية الفهم والفائدة فغير مطروحة للنقاش أساسا, وهنا يصبح المبدأ الميكافيللي الشهير الغاية تبرر الوسيلة مشروعا للغاية والوسيلة هنا أصبحت إحدى فضائح وكوارث بلادنا الحبيبة، فلجان الاختبارات يحدث فيها ما لن تشاهده في أفضل سيرك في العالم من بيع دفاتر الاختبارات إلى تسريب الاختبارات نفسها ودخول الإجابات من الخارج، بل ان الموضوع أصبح بيع وشراء..! فالطلبة يقومون بجمع مبلغ وتقديمه للجنة المراقبة "ليتعاونوا" وبالفعل سرعان ما تختفي "التكشيرة" المخيفة ليحل محلها ابتسامة تعاون وحنان مع عبارات مشجعة مثل: انتم مثل أولادنا.. ولكن سرعان ما يغير إستراتيجيته في الاختبارات الصعبة لكي يتم جمع مبلغ اكبر من الطلبة ليقوم بالفعل الذي يصفه الطلبة ب"يفسخلها"! ولو أردت "تعاونا" اكبر فان الإجراء المتبع من قبل الكثيرين هو السفر إلى "البلاد" أو أي قرية نائية فالكل هناك متعاونين وبأسعار ارخص, والأدهى من كل ما سبق ان تجد مدراء المدارس يمرون على لجان الاختبار للتوصية والتأكد من ان "الزبائن" يحصلون على الخدمة المطلوبة وهو ابتذال وسفه ما بعده سفه.. ومن جهة أخرى فان الطالب الذي مرت السنة عليه هو وأهله كمحنة رهيبة ماديا ومعنويا عندما تجمعه قاعة الاختبار بالطلبة الحاذقين الذين دبروا أنفسهم وتبدأ الإجابات بالدخول يكتشف كم كان غبيا ويكتشف ان من أراد العلا دفع "حق ابن هادي" ونام كل الليالي.. تخيل معي فقط قهر هذا الطالب، وهل سيصبح للجدية والاجتهاد مكان في أي موقف لاحق في حياته؟!! كل هذا يغرس في أعماق الطالب اليمني"الموظف، الطبيب، المهندس- فيما بعد".. ان الغش عمل مشروع ويصبح مقتنعا بمشروعية أي تصرف غير أخلاقي هذا غير الكارثة التي تمثل طابور طويل من الحاصلين على 90% لا يوجد في عقولهم 5% منها ممن يقومون بكل وقاحة وغباء بالالتحاق بالكليات العليا ليتخرج وينضم إلى طابور أطول من المخطئين المستديمين "وبين أخوتك مخطي ولا وحدك مصيب"، وتكون النتيجة شريحة كاملة من البلداء يبنون الوطن بقطع كرتونية هشة! ليس هناك أي مانع من ان يربح أصحاب المدارس الخاصة "ربنا يزيدهم" بل ان هذه المدارس مهمة للغاية لاستيعاب الأعداد الضخمة للطلبة, وفي نفس الوقت ليس هناك أي مانع من ان يتقوا الله ويقدموا خدمة تعليمية محترمة, وان كانوا يرفضون اتقاء الله أمام سيل الأموال الكثيرة فيجب ان تقوم الدولة بوضع معايير ومقاييس ومراقبة قوية وتطبيق مبدأ العقاب للمخطئ والمستهتر.. فلو أغلقت مدرستين أو ثلاث فان أصحاب المدارس "المستثمرين" سيصححون أوضاعهم حفاظا على "استثماراتهم". ومن المعروف ان "رأس المال جبان"، فما بالك وهو مال بلا رأس!!. أصحاب المدارس الخاصة.. إخواننا المدرسين والموجهين والمدراء.. اتقوا الله في فلذات أكبادنا واعلموا ان الأمانة رفضت حملها الجبال وانتم لا تحملون أمانة عادية.. انتم تحملون أمانة المستقبل. اكرر مرة أخرى ان الحديث هنا عن الكثير من المدارس وليس كل المدارس وعن الكثير من المدرسين وليس كل المدرسين، وعن الكثير من المدراء وليس كل المدراء. وفي الأخير وبمناسبة العام الدراسي الجديد تمنياتي بالتوفيق لكل الطلبة واهمس في أذنهم جميعا: أن اليمن تنتظرك.. فشد حيلك..! [email protected]