العمل في الإسلام رديف العبادة، وكان الدرس الأول الذي تعلمه المسلمون الأوائل من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ترجمه المصطفى بذلك الموقف الذي أمسك فيه بكف مزارع متشققة من كثر الإمساك بالفأس، فقبلها ثلاثاً ،وفي كل مرة يقول:«هذه يد يحبها الله ورسوله». فعندما نتحدث عن شهر رمضان بوصفه شهر عبادة، فإن العبادة لا تعني فقط الصلوات وتلاوة القرآن والتسبيح بذكر الله، بل أيضاً تعني العمل، خاصة عندما يكون ذلك العمل مرتبطاً بمصالح الناس ويترتب عن تعطيله ضرر مادي أو معنوي.
في كل رمضان تؤرقنا مراجعة الدوائر الرسمية، لأننا لا نجد كثيراً من الموظفين في مكاتبهم أو أنهم يأتون متأخرين زمناً طويلاً، وكلما سألنا عن أحدهم قيل لنا إنه في المسجد. فيما البعض الآخر تراه كمن يمنّ بصومه على الآخرين فلا يرد عليك إلا إن توسلت إليه.. وهناك أيضاً من تجده خلف المكتب يقرأ القرآن، وحين يضطرك الأمر لسؤاله ينظر إليك بازدراء ويقول لك: «ماتشوفني اقرأ قرآن.. يعني حبكت إلاّ الحين!؟» ؟!! كما لو أن ساعات الليل والنهار ضاقت به ذرعاً، ولم يعد لديه غير ساعات الدوام الرسمي ليتعبد بها الله، ولكن على حساب عمله الرسمي ومصالح الآخرين. في كل رمضان يشكو الناس ويتذمرون من ظاهرة التسيب الوظيفي، وأصبح معتاداً في اليمن أن يؤجل المواطنون معاملاتهم إلى ما بعد العيد، لأنهم واثقون كل الثقة أن هذا الشهر ليس شهر عمل، ولن يفلحوا بإنجاز شيء مهما حاولوا واجتهدوا.. فشهر رمضان في العالم كله شهر توبة ومغفرة، إلاّ عندنا هو "شهر معاصي" ينهب فيه التجار عشرة أضعاف ما كانوا ينهبونه أيام الفطر.. وتنافق فيه الجمعيات الخيرية عشرة أضعاف نفاقها أيام الفطر، فتأكل أموال الفقراء واليتامى والأرامل أضعاف ما كانت تفعل أيام الفطر.. ويتضاعف في هذا الشهر التسيب الوظيفي عشرة مرات، وتتضاعف معه الغلاظة، والمشاجرات في الأسواق والبيوت، وكل السلبيات..! في كل رمضان تمتص وزارة الخدمة المدنية غضب المواطنين بتصريحات تتحدث عن فرق تفتيش تتعقب سير الدوام الرسمي، وتتوعد بإجراءات عقابية صارمة لغير المنضبطين دون أن تفلح بالحد من الظاهرة، لسبب بسيط هو عدم الوفاء بوعيدها في العقاب.. وذات مرة برّر أحد المسئولين عدم معاقبة غير المنضبطين بقوله: "لأن ثلاثة أرباع الموظفين في الجمهورية غير منضبطين.. والبلد كلها سايبة"!! أحياناً نجد أنفسنا محرجين في العتب على وزارة الخدمة المدنية حصرياً، بعد أن نكتشف أن غالبية السادة الوزراء، ونوابهم، ووكلائهم، ورؤساء الهيئات والمؤسسات، والمدراء العموم غير منضبطين أيضاً ولايحضرون إلى مكاتبهم إلا نادراً، وربما لتمشية معاملة أحد الأقارب أو الأصدقاء، أو لأخذ بعض المصروف الإضافي.. وبالتأكيد ليس من الذوق لوزير الخدمة المدنية أو نوابه أن يطلبوا تنفيذ إجراءات عقابية بحق زملاءهم، لسواد عيون «المصلحة العامة»، فثمة قيم اجتماعية، ومصالح مشتركة، وهات وخذ، تمنع حدوث ذلك..!
اعتقد أن المسألة أكبر من أن تكون مسألة نظام وقانون، بل هي وعي ثقافي وإيماني.. فما لم نعِي أولاً أن (العمل عبادة)، والاخلاص فيه (تقرّب لله تعالى)، والقصور فيه كما التقصير بطقوس أي فرض ديني، فإن الظاهرة ستستمر حتى لو شرّعت الخدمة المدنية عقوبة الإعدام للمتسيب وظيفياً.. فلنتذكر جميعاً أن هناك من يأتي من قرية نائية أو محافظة بعيدة ويتكبد مشاق كثيرة لانجاز معاملة بسيطة ،ومالم نسهل عليه أمره ،ونراعي صومه ، فإنه لافضل لنا في صومنا وعباداتنا فالدين المعاملة.. فأحسنوا معاملة الناس ليحسّن الله عملكم.