"إهداء إلى ذياب القدسي السباك ابن السبعين عاماً الذي, مازال يتحمل مسؤوليته والتزاماته بأمانة وصدق, حتى اليوم.." السلام عليكم.. اسمي محسن علي مهنتي معلم سجاد وموكيت: معلم تركيب, لا تصنيع ولا بيع.. ليس لديَّ ثروة ولا أراضٍ, عدا أرض البلاد, التي يبست من قلة الأمطار, ولربما يحييها الله مع الأمطار التي عادت هذه الأيام بفضله.. لي حياة بسيطة مستورة بستر الله. الحمد لله, وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. اليوم صمم علي الدكتور ياسر أن أحدثكم؛ الله يسامحه فمن أنا حتى يكون حديثي ذا قيمة. ولولا أنه حلف علي بالله أن أحدثكم لما نطقت بكلمة. فالله المستعان.. سبحان الله, لقد كان زبوناً مثل أي زبون, يفترض أن أنهي عملي لديه وأعود إلى محلي, لأستعد لعملٍ جديد, بعد أن أرتح قليلاً مع ربطة القات (الجعشني) الذي جاءني اليوم من "إب", إلى أن يأتي زبون جديد..ولكن هيهات أن يتركني أمضي لحالي إلاَّ بعد أن أروي لكم ما دار بيننا من حديث. كانت البداية حين سألني, مستهلاً: "لكل مهنة أخطاء ,وكل إنسان مهما كان مجيداً في عمله أخطاء, فقل لي كم كلفت أخطاءك وكيف أصلحتها؟" لي أخطاء كثيرةٌ.. أهونها أنني, كل شهر أتغيب عن العمل يوماً أو يومين,لكسل أو لطلب راحة زائدة مع (كيافة قات) أكره أن أتركها وأعود إلى عملي, فأكذب على صاحب العمل. وإن كنت لا أنام حتى أستغفر الله ألف مرة على الكذب الذي حرمه... أعرف ما يريد الدكتور ياسر وما وراء سؤاله الذي أعادني ثلاثين عاما من السنين التي لا تعود, حين بدأت أول مهمة مستقلة لي في تركيب موكيت أحد العملاء. انتهيت من عملي أخيراً أحسست بالفخر وأنا أثبت آخر قطعة في ديوان البيت: "القطع كان دقيقاً, لا يوجد أطراف غير متناسقة, ولا قطعة مرتفعةُ عن أخواتها" قلت ذلك في نفسي وأخرجت سيجارة أشعلتها,وأخذت نفساً عميقاً مخلوطاً بهواء (الختاته) أو الغرور , ثم لمحت خيطاً كهربائياً صغيراً بارزاً من الجدار فأحببت أن أزيله؛ أشعلت ولاعتي الغازية ومددت يدي باتجاه علبة الكهرباء التي يمتد منها.. أحرقته وأزلت التشويه الذي كان يحمله.. لكن النار التي انتشرت والدخان الذي ملأ الغرفة أثبت لي أن الموكيت كان يحترق.وان النار كانت قد وصلت إلى كل سنتيمتر في الموكيت.. لم أدر بنفسي إلاَّ وقد كنت خارج الغرفة أغلق الباب وأستند إليه بظهري, ضاغطاً عليه بكل ما منحني الله من قوة. لم أدر كم مر من الوقت وأنا على تلك الحالة, حتى عاد صاحب البيت بعد أن كان خرج لغرض يريده.سلم علي رددت عليه السلام. أدخل الأشياء التي كان يحملها إلى داخل البيت.. عاد من جديد.سألني وقد لاحظ الموكيت في الممر والغرفة المقابلة للديوان, أشار إلي أن أبتعد عن باب الديوان.. ابتعدت بتثاقل وأنا أرتعش.. فتح الباب.. كانت الغرفة سوداء نوداء.. صاح الرجل : "من أحرق الديوان؟" قلت: الله أعلم ولا أعلم.. دخل إلى داخل البيت وهو يصيح وصرخ في النساء" من أحرق الديوان".. أجَبنَ: "أي حريق؟".. البيت احترق, يا تاركات, يا ناقصات العقل, يا فاعلات, ولم تعرفن". ظل يصرخ؛ فجأةً عاد إليَّ يسأل "من فعل هذا؟". أعدت إجابتي: الله أعلم ولا أعلم. كان الرجل كريماً، بعد أن تأكد له أنني الفاعل, قال بأنه سيصلح الجدران, وحملني موكيتاً بدل الموكيت كجزء من تحملي للمسؤولية.. أوصلني بسيارته إلى المحل, ولم يخبر صاحب العمل بشيء, وبعد أيام عاد ليطلب مني الموكيت الناقص.. أعطيته خمسة أمتار,وطلبت من صاحب المحل أن يخصمها من معاشي.. الحقيقة أن سعر الموكيت ثلاثة آلاف- معاشي بالضبط- فرشته في الديوان, وحين خرجت كان الرجل كريماً, لم يشأ أن أتحمل كل ذلك المبلغ فأعطاني ألفين ريال. الله يغفر لي ويغفر له.. انتهت الحكاية ولا أدري بماذا ستفيدكم. أرجو ألا تهمهموا بما همهم به الدكتور ياسر: «مسؤولية, بركة, تسامح». الحكاية الثانية: أيضاً, كنت أضع اللمسات الأخيرة لفرش طلبية غالية من الموكيت, لأحد الزبائن ذوي المال والجاه.. حاضر, حاضر سأسرد القصة سريعا ًولا تزعل يا دكتور: لقد نبهتني على أهمية الاختصار حتى لا يمل القراء من حمل ورقة هذه القصة, لأن الورقة الوحيدة التي يظلون معها لساعات, ولا يملون من حملها هي ورقة القات.. حسناً, فرشنا الموكيت ولحسابٍ خاطئ ظل هناك فراغ لعشرة سنتيمترات في طرف الصالة. لم يكن مهماً لأنه سيغطى بالأثاث. جاء صاحب العمل وركل الموكيت من تلك الجهة الناقصة, مهنجماً: "اخلعوه كله, بدلوه كله." واجهته: "سأضيف السنتيمترات الناقصة, ولن يظهر أي عيب" ظل في هنجمته واستعلائه: "لا أريده.. شلوه.. أرجعوه معكم.. شعب متخلف. شعب فاسد" . ظللت أراجعه "يا فندم, يا مدير, ياوزير, يا شيخ,. يا منعاه. يا حجة الله" ولا حياة لمن تنادي: فقط استكبار وعلو.. أمام إصراره لم أدرِ إلاَّ وقد رفعت سكين قطع الموكيت الكبيرة, صارخاً: "أنت مجنون قيمة الموكيت أربعمائة ألف, ودية الآدمي أربعمائة ألف. والله لأضربنكَ بهذه وأقسمك نصفين, وأدفع الأربعمائة ديتك".. ذلك المتكبر أصبح فجأةً فأراً مذعوراً. ظل يجري أمامي, وهو يصيح: يا غارتاه، أمسكوه.. خلاص.. أنا موافق يضيف القطعة الصغيرة.. انتهت الحكاية التي كان الدكتور يتمتم بعدها بكلمات كبيرة لاعلاقة لها بما قلته: حر. حر. الثالثة, وأذهب في حال سبيلي.. ماذا تريد أن أحكي يا دكتور؟ قصة ابن صاحب المحل الطفل الذي صعد بالسيارة من فوقي, وخرج إلى الطريق العام ولطف الله بي وبه؟ لا. إذاً قصة انتظاري ستة عشر عاماً حتى رزقني الله بأول مولود؟ أيضاً, لا.. ماذا؟. نعم. نعم. أخطائي بسبب الغيرة والمال والطموح. حقيقةً في بداية حياتي, بعد أن بدأت أعتاد المال,وقمت باستئجار بيت وأحضرت زوجتي من البلاد. وصار حالي أفضل من كل من أعرف من أقراني. وبدلاً من أن أحمد الله, كنت أتأفف وأقول هل من مزيد. وحتى على مستوى زمالة العمل, كانت الغيرة تأكل قلبي على أي واحد يعمل في مجال عملي. فإذا رأيت عمله لدى, زبون طلعت فيه عيوب البغلة. وإذا جاء زبون يسأل عن أحد الزملاء, أجيب بأنه غائب من أسبوع وأسب أخلاقه. وإذا ماأتفقت أنا وزبون على أجرة معينه، وأكتشف فيما بعد أنه غني وطيب أيضاً. فأنني (أكدد) عليه وأطلب سعراً أعلى لأن العمل متعب. أو لأي سبب أدعيه, حتى أجعله يذعن وهو في بغضٍ شديدٍ لي. كنت جشعاًً للمال وأريد, مثل أي شخص أن يكون لدي منه الكثير.. البيت ..السيارات, الأراضي. كان هذا طموحي, لم يكن طموحي مثل ما كنت صغيراً أن أكون طبيباً, أو صاحب شركات, أو حتى أن أكون رئيساً للبلاد.. لماذا تضحك يا دكتور.. لمَ لا أكون رئيساً, وقد كان جدي (محمد النظاري) الكبير سلطاناً لمملكة بعدان التي كان من أعمالها مدينة إب. وكان حصن حب المنيع هو مقر حكمه ودولته, الذي لم يستطع الأتراك بمدافعهم التي كانت عجيبة ذلك الزمان, انتزاعه بالقوة. ولكنهم نجحوا بالغدر والحيلة أن يأخذوه من حفيده السلطان علي النظاري بالرغم من أنه كان أكثر من أجزل العطاء للترك, وأخلص للدولة العثمانية التي خلفت دولة الطاهريين. فبعد أن أمنه والي"تعز" محمود باشا, وطلب منه النزول للصلح, قتله غيلةً, ومائتين من جنده كانوا معه, وأعمل سيفه فيمن بقى من الناس في الحصن, ونهب ثروته التي كان من ضمنها كرسي من الذهب مرصع بالجواهر, عاهدت نفسي صغيراً على البحث عنه واستعادته ؛. دعني أريك هذه الصورة يا دكتور, أنظر هذه قمة حصن حب في قمة جبل ريمان. هذا جامع الحصن وذلك الذي في آخر الصورة هو بقايا قصر أجدادي.. هل آمنت الآن, أن من حقي أن أحلم؟ عموماً كان الحلم بالرئاسة والقيادة والشهرة. حلماً مشروعاً للأطفال في أيامنا. دائماً ما أتذكر هذا وأنا أرى ازدياد عدد الأطفال الذين يتسولون, أو يعملون في مسح السيارات وغيرها من المهن التي سرقت منهم طفولتهم وأحلامهم.. ههه. عفواً لقد خرجت عن الموضوعً, أعود لقصتي الأخيرة.. لم يذهب مافي قلبي من نهم وغلٍ على المال, لا العمل إلاّ حين أبغت أن صغيري, ابن الثلاث سنوات, قد غافل أمه, وقفز من فوق سطح البيت, مقلداً أفلام المصارعة التي كنا نفتحها له حتى ينشغل عنا. أسعفته إلى المستشفى,ودفعت كل ما جمعته عن طريق (الكداد) وأخذ زبائن زملائي,حتى شفى الله ولدي. تلك الحادثة جعلتني أعود لقراءة القرآن, وهي عادة عودني عليها والدي يرحمه الله قبل أن أنشغل عنها بقراءة كم سأجمع من المال, وماذا يجب أن أعمل حتى يزيد ويزيد. في إحدى المرات كنت أقرأ سورة الإسراء, وصلت إلى تك الآيات التي عرفتني الفرق بين السعي في العمل والسعي من أجل المال. علمتني أن الدنيا الجميلة التي خلقها الله قد تكون في طريق مختلف تماماً عن الآخرة التي هي أعظم حياة.. ها هو الدكتور ياسر يطلب مني أن أتوقف عن وعظ القراء, وأن أتلو الآيات وأذهب إلى عملي.. حاضر.. حاضر: "بسم الله الرحمن الرحيم: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموماَ مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً كُلاًََ نُمِد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا,انظر كيف فضلنا بعضهم على بعضٍ وللآخرة أكبر درجاتٍ وأكبر تفضيلا". صدق الله العظيم.. اللهم إهدنا أجمعين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.