هذه من الشبه التي يرددها الغلاة لتبرير أفعالهم الشنيعة وتسويغ ما يرتكبونه من الجرائم، حتى يجروا ذوي العقول الضعيفة والعواطف الهائجة إلى صفوفهم، فيرددون قائلين بأن الحكام قد ارتدوا وأعانوا الكفار ضد المسلمين؛ فوجب قتلهم وقتالهم، وقتال من يقف معهم. فهل شبهة الإعانة هي من نواقض الإسلام مطلقاً، أم أن فيها تفصيلا، لنرى ذلك في النقاط التالية: الأولى: أن التكفير حكم من أحكام الشريعة لا يجوز أن يتكلم فيه إلا العلماء الراسخين في العلم، والأحكام الشرعية مبناها على الأدلة الشرعية لا على الأهواء والأذواق والعواطف، والمتكلم فيها لا بد أن يعرف بين العلماء بالعلم ويشهدوا له ولما أتى به من الأدلة، أما من لم يعرف بالعلم فأنى له التصدي لمثل هذه المسائل العظيمة وهو لم يتقن صغار مسائل العلم. الثانية: أن التكفير لا بد فيه من التفصيل والبيان، وإقامة الحجة، وسماع ما عند المسلم من الشبهة؛ وهو ما يعبر به العلماء بانطباق الشروط وانتفاء الموانع؛ لأن المسلم الأصل فيه السلامة من الكفر؛ فلا ينقل من إسلامه إلى الكفر إلى بيقين يقابل اليقين الذي أدخله في الإسلام. وأما العموميات ونقل الأخبار فليست هي الطريقة الصحيحة عند أهل العلم في التكفير، وإنما هي طريقة الغلاة الخوارج، الذين قل فقههم وفهمهم لدينهم. الثالثة: أن إعانة الكافر على المسلم ليست من نواقض الإسلام المطلقة باتفاق أهل العلم، وأصرح دليل في ذلك هو ذات الدليل الذي يستدل به الغلاة وهو حديث حاطب رضي الله عنه المخرج في الصحيحين، حيث دل الحديث على أن حاطباً لم يرتكب مكفراً؛ لأن ارتكاب الكفر محبط للعمل، فلو صدر منه الكفرُ لكان الكفر قاضياً على بدريَّتِهِ بالحبوط ؛ ومن ثَمّ فلا يمكن أن يشفع له عملٌ حابط ؛ كيف وقد أخبر اللهُ تعالى بأن الشركَ محبط للنبوّة والرسالة - وهما أعظم من شهود بدر لحاطب - حين قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: ( لئن أشركتَ ليحبطنّ عملك ولتكونن من الخاسرين )؛ ولما لم يحبط عمل حاطب دل على أن فعله من جملة المعاصي التي تكفرها الحسنات ومن جملتها شهوده رضي الله عنه لبدر. الرابعة: أن تكفيرهم لولاة المسلمين مبني على مسألة الموالاة للكفار، وهذه المسألة تحتاج لشيء من التبسيط حتى تتضح على المنهج الصحيح؛ فنقول: إن الموالاة للكفار ليست على صورة واحدة؛ بل هي تختلف باختلاف الصور والمقاصد، فالإعانة التي يقصد صاحبها هزيمة الإسلام، وظهور الكفار على المسلمين، والفرح بنصرة دينهم الباطل؛ لا شك أنها من أنواع الردة التي لم يختلف عليها أهل العلم لكونها تعلقت بأمر ديني. أما المولاة التي لم تبنى على تلك المقاصد، وإنما القصد منها غرض دنيوي، فهذه قد بين كثير من العلماء الجهابذة بأنها لا تعتبر ردة، ومن ذلك: قول الإمام الشافعي - رحمه الله - في ( الأم 4/249 ) : " وليس الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يُحذِّر أن المسلمين يريدون منه غِرَّةً ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفرٍ بَيِّنٍ " انتهى . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى (7/522-523) : وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ولا يكون به كافراً كما حصل لحاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليكم بالمودة ) وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك فقال لسعد بن معاذ : كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية . ولهذه الشبهة سمى عمر حاطباً منافقاً فقال : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال :" إنه شهد بدراً " فكان عمر متأولاً في تسميته منافقاً للشبهة التي فعلها . وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين هو من هذا الباب ، وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم : منافق ، وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين" انتهى . وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ( تفسيره 4/410 ) : " قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذر حاطب لَمّا ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعةً لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد " انتهى . وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في الرسائل والمسائل النجدية (3/9-10) : فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة وأنه أبلغ إليهم بالمودة، فإن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل لكن قوله "صدقكم خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ولو كفر لما قيل " خلوا سبيله " لا يقال قوله صلى الله عليه وسلم لعمر " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " هو المانع من تكفيره لأنا نقول لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه، فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله تعالى { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وقوله تعالى { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا، وأما قوله { ) وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } وقوله { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } وقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فقد فسَّرته السنَّة وقيَّدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة، وأصل الموالاة هو الحبُّ والنُّصرة والصداقة ودون ذلك مراتب متعددةٌ ولكل ذنبٍ حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروفٌ في هذا الباب وغيره ... ا.ه. وبهذه النقول وغيرها كثير يتبين أن الموالاة للكفار ليست على صورة واحدة، بل تختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، لا ما يدعيه الغلاة بأن مجرد الموالاة هي من موجبات التكفير واستحقاق صاحبها للقتل. الخامسة: أن الموالاة المكفرة لا بد فيها من إقامة الحجة على مرتكبها قبل الإقدام على تنفيذ حد الردة عليه، والحدود أمرها لولاة أمور المسلمين، فهل هؤلاء الغلاة قد أقاموا الحجة على الحكام على فرض أنهم قد ارتدوا، أم أنهم ولاة قد اجتمعت بيعة المسلمين لهم فلهم الأحقية في تنفيذ الحدود الشرعية على متعديها؟؟!!