(الشارع أنموذجاً) الشارع هو ممر ذو ملكية عامة في البيئات العمرانية. هذا هو تعريف الشارع الموجود في ويكبيديا” الموسوعة العالمية”.. وهناك مواصفات هندسية للشارع لا تتميز بها الشوارع في صنعاء ، من حيث المساحات والمسافات، من عرض الطريق و مساحة الأرصفة و وجود الفضاء العام. أما استخدام الشارع كملكية العامة فتعتريه الفوضى، حيث يمكن لأحدهم أن يوقف سيارته في وسط الطريق معرقلا السير ليتحدث مع شخص ما، أو لأي سبب أخر، وقد يتحول الرصيف (حال وجوده) فجأة إلى مساحة للبيع أو جزء من مطعم أو مقهى ما يمنع المشاة من استخدامه. فيما الملكية العامة متاحة لجميع المواطنين/ات في الدولة، وتحمي الدولة هذه الملكية وتنظم كيفية استفادة المواطنين/ات منها. فهل يتاح لجميع المواطنين/ات استخدام هذا الفضاء العام: الشارع (الملكية العامة) بما فيه من فضاءات من المفترض أن تستخدم لأكثر من المرور كالحدائق والمتنزهات والمساحات الخالية، وكذا أماكن تقديم الخدمات كالمقاهي والمطاعم والمتاجر (كملكية خاصة تقدم خدمات عامة مدفوعة الأجر)
مؤخرا عرضت نتائج لدراسة أشارت إلى أن ما يقرب من 90 % من النساء المبوحثات في صنعاء يتعرضن للأذى (العنف) في الشارع من الذكور بأعمار مختلفة.لا يرحب الشارع بالنساء وقد يكون عدائيا تجاههن، ترصدهن الأعين وتقذفهن الألسن، وقد تمتد بعض الأيدي للنيل منهن، وجودهن محفز للأذى. كانت النساء في الماضي القريب يستخدمن الشارع، بل مازالت البعض من كبيرات السن يجلسن في بعض أركانه وأمام بعض البيوت، يتبادلن الحديث مع أخريات وآخرين من الجيران في عدد قليل من الحارات القديمة. وهذا بالتأكيد ما اعتدن عليه منذ زمن، ولو كان الشارع قد قابل هؤلاء النساء بالرفض، ما كن ألفنه وظللن على علاقة به!! قد يكون استخدام النساء للشارع قد اختلف إلى حد ما من الماضي إلى الحاضر، فالنساء كن يستخدمنه لقضاء حاجات العائلات اليومية التي لا تخرج عن نطاق القوى الاقتصادية للرجال، بما في ذلك البيع وشراء كبائعات الخضار أو الخبز، أو الزيارات التي تتوافق مع النظام التقليدي، والتي تبني العلاقات الاجتماعية و لم تكن تخلو من المحافظة على موازين قوى.
مازالت رائحة الخبز تفوح من بيوت الخبازان جوار سوق القاع، إلا أن عدد البائعات بدأ في التناقص ليحل محلهن الأولاد الصغار أو عدد من الشباب، وهذا قد يندرج تحت منع أو امتناع النساء عن إدارة شأن عام هو البيع والشراء، أي التحكم بالموارد، وقد يكون المنع أو الامتناع هو احد نتائج ما تتعرض له هؤلاء النساء من الأذى والعنف، الذي كان اقل في الماضي حيث كان يتم التعامل معهن بعدائية اقل إما من قبيل احترام تكسبهن “الشريف” أو من باب الترفع، حتى أن طريقتهن القديمة للتنافس بالترويج لبضاعتهن عن طريق المناداة بها ولفت نظر الزبائن لها اختفت، فهن يجلسن بصمت بانتظار التفاتة الزبون من تلقاء نفسه، ربما تماشياً مع القول بعورة صوت المرأة. الهجرة المتزايدة إلى المدن، قلصت مساحة المشاركة العامة للنساء الريفيات التي كانت تتمثل بالانخراط الفعلي في مواسم الزراعة المختلفة، وما يليها من مواسم الفرح، ولم تتسع المدن لمشاركتهن، ولم توفر الشوارع الآمن الكافي لهن وان على مستوى حركة التنقل البسيطة مقارنة بفضاءات الريف، والذي لم يعد بذلك الاتساع هو الآخر. ي صعب على النساء اليوم الوقوف في الشارع أو السير فيه بطمأنينة كافية لخلق علاقة ودية معه، تستخدم النساء الشارع عادة للمرور(فقط) من مكان محدد إلى آخر فليس الشارع بالنسبة لها مكان للجلوس أو حتى ممارسة رياضة المشي بل هو مكان لابد من قطعة للوصول لمصلحة ما، وغالبا ما يتوجهن إلى أماكن مغلقة، فالفضاء المفتوح غير مستحب للنساء، عدد من طالبات المدارس الصغيرات يستخدمنه كطريق للمدرسة أو لمتابعة احتياجات العائلة، ولكن بحذر بل بخوف (لم يعد الشارع آمناً). لا يتواني احدهم عن التحرش بفتاة صغيرة لا تتجاوز ربع عمره، بل انه قد يقوم بذلك وقربه طفل (ذكر) صغير، لا يلبث هذا الصغير أن يقلده ويتحرش بنساء يتجاوزن ضعفي عمره، سلسلة التحرش تمتد وتتطور، وتكبر الدائرة بازدياد عدد المتحرشين (الذكور) وليشمل التحرش عدد اكبر من الإناث، لتضيق مساحة النساء أكثر في الشارع وتختفي بائعة الخبز والخضار والقادمة من الريف، وتفضل أخريات استخدام وسائل المواصلات في حال التمكن الاقتصادي لتجنب الشارع أو السير فيه على مضض، وبشعور كثيف بالهتك. حتى التي تقود سيارتها الخاصة لا تستطيع تجنب التحرش بأشكال مختلفة بالحركة والقول أو غيرها، وتلك التي تستخدم المواصلات العامة الجماعية أو الفردية لا يمكنها تجنب عنف الشارع، أحاديث التاكسي أو الباص التي لا تخلو من التعريض والتصريح، التحرش يمتد إلى هتك العرض كما يطلق عليه القانون في كثير من وسائل المواصلات العامة. ما حدث من تغيير في الشارع له علاقة بشكل أو بآخر بالتركيبة القانونية للدولة أولاً، حيث تعامل الدستور اليمني بتمييز مع النساء، فأخرجهن من المواطنة الكاملة إلى ملحق بالرجال، فهن شقائق الرجال لهن ما لهم وعليهن ما عليهم وبما تقتضيه الشريعة، فهن فئة خاصة تماما قد يكون للشريعة فيهن رأي لا ينطبق على الرجال، لتأتي المساجد باعتبارها ممثلة للشريعة بالنسبة لعامة الناس، فلا تكل هذه المساجد عن التحذير من شر النساء، وقد يصل الخطاب إلى التحريض ضدهن، مقابل لا فعل من مكونات الدولة الأخرى، مما يعبر عن موافقة صامتة (هناك بعض الجهود المتواضعة لإدارة الشرطة الراجلة، إلا أن الأجهزة الضبطية مازالت جهات غير صديقة للنساء، والتعامل معها قد يكون بكلفة التعامل مع جميع مكونات الشارع). الخطاب الديني بشكل عام يعطي مبرراً شرعيا لطريقة تعبير الرجال عن أنفسهم بحال تواجد النساء، فهم في موقع المفتون الذي لا يملك كبح مظاهر افتتانه، وهن الفتنة التي يجب أن تختفي لجلب الطمأنينة إلى أرواحهم، والشارع فضاء يخصهم، ككل ما هو عام، فعليهن الاختفاء عن فضاءاتهم لينعموا بهذه الطمأنينة، الخطاب القائم على تشييىء النساء وجد استجابة لدى (الذكور) لما له من اثر في حفاظهم على موقع السيطرة على الفضاء العام. العديد من النساء أصبحن يستخدمن الشارع (كممرر فقط وليس كفضاء) لإدارة مصالحهن الخاصة كطلب العلم أو المشاركة في الوظائف العامة التي كانت حكرا على الرجال، مما قد يعني أن العنف الذي يتعرضن له في الشارع يدخل ضمن الرفض ألذكوري لمشاركتهن العامة، و الخطاب الديني المحرض ضدهن لا يخفي أبدا رفضه لهذه المشاركة. ويقوم هذا الخطاب بالترويج لعلاقات مخلة بين الجنسين في الفضاء العام، ويتضح هذا بما ورد في كتاب صادر عن إحدى الجماعات الدينية المتشددة (بأن خروج النساء للمشاركة العامة لا ينتج عنها سوى الفوضى الجنسية)، وكان أثره كارثياً باعتماد المجتمع عليه لتبرر سوء تربيته لأبنائه وبناته وتركهم دون الرعاية والاهتمام الكافيين، مرجعاً كافة مشاكلهم الجنسية الاختلاط وخروج النساء إلى الفضاء العام، وكذا تقبل حالة العنف التي تعانيها النساء مهما كان توجههن أو مظهرهن في الشارع، وكانت ردة فعل الجميع تجاه ما تتعرض لها النساء من عنف في الشارع هي: “ من قلها تخرج؟”، فصار الخروج بحد ذاته مهما كانت ضرورته وبغض النظر عن كونه حقاً لكل إنسان (لا يسأل لماذا خرج؟)،فأصبح الخروج إلى الشارع بحد ذاته ذنباًَ تستحق بارتكابه النساء العقاب (العنف) الذي يواجهنه. ولم يلتفت الخطاب الديني للتدني أخلاق الشارع، بل ظل هجومه على النساء كأداة فتنة، والى الاختلاط في الفضاء العام كأحد أهم وسائل الفتنة، متجاهلا أن الأخلاق مسئولية فردية ، فكل فرد مسئول عن أخلاقه الخاصة، وليس على أي فرد تحمل المسئولية عن أخلاق غيره، أو إن يحمل غيره مسئولية سوء أخلاقه. وهو ذات الخطاب الذي مكن الرجال (الذكور) من الفضاء الخاص عبر علاقات الطاعة ووجوب الإذن عند مغادرة منزل الزوجية ومبدأ الولاية وولي الأمر. وهنا يميز القانون أيضا ضد النساء ويقحم نفسه في أدق الخصوصيات ليحدد التعامل بين الزوجين ويربط الطاعة الكلية من النساء للرجال بالأمان الاقتصادي. ليحكم القبضة حول المشاركة العامة للنساء. لتجد إن علاقاتها الاقتصادية بالرجل قد تتأثر في فضائها الخاص في الوقت الذي لا يتوفر فيه أمان في الشارع (الممر) إلى الفضاء العام، فتفضل البقاء بالمنزل وعدم المشاركة العامة، أما في حال نفاد المرأة من قانون الطاعة وتحديد الحركة المتعلقة بالفضاء الخاص، يأتي الشارع بتعامله الرافض والذي يصل حد العنف، ليكون خيار كثير من النساء (الإجباري)هو الانسحاب أو على الأقل الحد من مشاركتهن العامة. التحميل المضاعف للمرأة لمسئوليتها عن أخلاقها الخاصة، وكذا عن أخلاق الرجال، إضافة إلى مسئوليات أخرى تتحملها، و الضغط الذي تتعرض له بشعورها الدائم أنها في معركة دائمة لإثبات حسن أخلاقها أو سلوكها، وكونها عرضة للانتهاك طوال الوقت، يصيب المرأة بالتشتت وعدم التركيز مما تجعل مشاركتها العامة تتضاءل إلى أضيق الحدود، ويصيب أدائها بالضعف، هذا الضعف يتحول مباشرة إلى حكم على تجربتها كاملة بالضعف، و هذا يصب في مصلحة النظام الذكوري التقليدي ( الفكر الديني المتشدد جزء منه) في اتجاهين:الأول استمرار التحريض الديني المجتمعي ضد النساء وتحفيز الرغبات والغرائز ضدهن بين العامة ليرفض الشارع خروجهن وتحركهن، الأخر تضخيم ضعف أدائهن ومحدودية مشاركتها بين النخب الحاكمة لتثبيت فكرة عدم صلاحياتهن كنوع بشري في الوصول إلى المشاركة العامة وصنع القرار، مما يضعهن في منافسة غير عادلة لا يتمكن فيها من استغلال إمكاناتهن الإنسانية بشكل كامل. وما صور العزل المتعددة للنساء في المجال السياسي في صورة قطاعات نسوية داخل الأحزاب وبعض المؤسسات الأخرى إلا صورة من صور عدم القناعة بوجودهن، وعدم القدرة على رفض هذا الوجود رفضا صريحا، في دولة تقدم نفسها كدولة ديمقراطية تؤمن بمشاركة كل مواطنيها، هذا الرفض المبطن و المتمثل بالعزل يؤثر ويتأثر بتقبل الشارع لها. وعليه يجب أن تقوم أجهزة الدولة الأمنية والإعلامية والتعليمية بتعزيز مبادىء للتعامل بين الأفراد في الفضاء العام، قائمة على احترام الحرية الشخصية وقبول الآخر والالتزام بالقوانين العامة، كما على جميع هذه المؤسسات إضافة إلى المجتمع المدني والأحزاب كسر الصورة المتداولة لخروج النساء، وتعزيز صورة المرأة الايجابية في الحياة العامة، وتكثيف الفضاءات التي تسمح بتواجد العائلات بأفرادها من الجنسين مما يعزز الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع ويخلق علاقات سوية بينهم بعيدا عن الثقافة التي تكرس أن الفضاء العام هو مكان للممارسات غير أخلاقية، وعليها مراقبة الخطاب الديني الموجه في المساجد والمحافل العامة و منع التحريض ضد أي فئة من فئات المجتمع.