في البرنامج التلفزيوني "صناعة الموت" الذي تبثّه فضائيّة "العربية"، شاهدت رجلا ضريرا يتحدّث عن الطريقة التي تتمّ بها عملية سمل العيون من قبل الجماعات المتناحرة؛ وهو ما يمتدّ حتى داخل السجون التي تشرف عليها القوات الأمريكية.. إنّ ما حكاه الرجل هو أفظع مما يمكن تصوّره، فقد كسر معتقلون عراقيون، كانوا معه في السجن، رجله اليمنى وذراعه اليسرى وقطعوا جزءا كبيرا من لسانه.. وهي أعمال تذكّرنا بألوان التعذيب التي مارسها بعض الحكّام العرب أيّام الدولتين الأموية العبّاسية، كما أوردها الأستاذ هادي العلوي .. لست مهتمّا بقضايا السياسة العراقية، لأنّني أعتبر المسألة أكبر مما يمكن أن نتصوّر، فهي حقل تجارب وورشة لبناء وتجريب نظريات وتصورات وسياسات، وما يهمني في هذه المسألة هي عودة البربرية وكيف يمكن للموت أو القتل أن يتحوّل إلى "صناعة" تعتمد على تكنولوجيا محكمة ومضبوطة. ثمّ كيف يستمرّ العنف البدائيّ ويصير فكرا ونمطا يُعتمد عليه في إعادة ترتيب صراعات قديمة، سياسية وعرقية ودينية… وكيف يصبح الدّين هو الوجه الأكثر عنفا وهو يلبس جبّة السياسة كعادته.. الموت الذي صار صناعة مزدهرة في العراق (والعالم)، يمكن أن نتناوله من عدّة زوايا، ولكلّ زاوية حقل من الدلالات والخلفيات.. لكن الذي أثارني فيه، إلى جانب هول أصناف التعذيب، هو العبارة التي كرّرها الضحية، وهو يحمّل المسؤولية للأمريكيين في البدء والمنتهى، مردّدا "إنّ الأمريكيين هم من يتحمّل المسؤولية"!.. فليس غريبا أن تترسّخ في هذا السياق النرجسية الذاتية بوجهيها النقيضين: عبادة الذات، والعدوانية على الآخر، هذا أو اتهام الآخر بالعدوانية، والحصيلة أنه في حالة الإخفاق والعجز يجري تغييب الإرادة لحساب إرادة الآخر، وليس التصدّي وانتزاع عوامل القوة (التنوير الآتي من الشرق. مقدمة المترجم.عالم المعرفة. ع346. ص8) لا جدال في أنّ الأمريكيين يتحمّلون المسؤولية، بل هم مسؤولون على كلّ ما يحدث في العالم، خصوصا أنّ التاريخ، اليوم، صار صناعة واعية، ويتمّ التحكّم في العديد من ميكانيزماته.. لكن، إذا كانت أمريكا هي المسؤولة، فإنّ الثابت أنّ عديد الحوادث وتقنيات التعذيب والقتل والإخصاء تتمّ بأياد عربية عراقية..! فما لا يستطيع الآخر فعله يترك للأخ مهمّة الاضطلاع به بصورة أكثر إخلاصا واجتهادا. فالآخر لم يعد في حاجة إلى أن يتدخل من أجل "العمليات الجراحية الكبرى" لأنّ الاحتلال العسكريّ السافر لم يعد ضروريا، بسبب بروز وسائل حديثة- على حدّ تعبير شومسكي- وإذا كان العراق يعرف احتلالا عن طريق "العملية الجراحية الكبرى" فذلك بسبب ضرورته، لأنّ المنطقة ستشهد تحوّلات مستقبلية لم تكن متوقّعة، وإنّ ما يعتبر اليوم انتصارات من لدن العرب، سيدركون لاحقا أنها كانت هزائم حقيقية، انعكست على مستقبل الإنسان العربي قبل الأرض العربية.. فالخرائط والسياسات هي أشكال ظاهرة ومتغيرة، لكنّ الاختلالات التي تتسرّب إلى السيكولوجية الفردية هي أخطر مما يمكن أن نتصور. لذلك فإنّ العنف الذي يمارس من قبل الأفراد تجاه بعضهم وتجاه الآخرين (الذين يختلفون عنهم ثقافيا ودينيا.) هو عنف يدفع إلى طرح عدة تساؤلات، أو على الأقلّ هو عنف يعود إلى الطبيعة المتوحّشة والعدائية التي توجد لدى الكائن البشري.. يبدو أنّ الإنسان العربي أصبح أداة طيّعة لكي يتمّ استعماله في تنفيذ أيّ سلوك عدائيّ، كما أنه صار أكثر قابلية لكي يلعب دور الممثل المتقن لدور الجلاد، وهو يتقمّص هذه الشخصية في الأحداث التي تُصنع به في شوارع العالم كله.. فهو يحرق ويسرق ويعتدي ويقتل بسبب "رسوم" لا تحمل أيّ قوّة دلالية، وهو يتظاهر لأنّ أحد مقدّساته مُسَّت، أو أحد رموزه انتكست، وهو يخرج إلى الشوارع في العواصم الغربية لكي يقول للعالم بأنّ الحجاب هويته، وإنّ القرآن هو الحقيقة المطلقة، وإنّ الكلّ على ضلال، فيسمح لنفسه بأن ينصّب نفسه حامي "الملّة والدين" والمفتي الذي يبيح لنفسه بأن يكون "القصاص" بسيفه لا بالحوار..! هكذا يجعل العربي نفسه ممثلا دائما على خشبة المسرح العالمي، وأمام الكاميرات التي تختزل كل صوره في هذه الصور، وتختزل كلّ تجاربه في ما يخوضه اليوم من معارك ذات طبيعة دونكيشوتية، ويقف مزهوّا يسبّ الغرب والحضارة الغربية، لكنّ كلّ ذلك يتمّ داخل أستوديوهات قنوات صمّمها تقنيون غربيّون، وبكاميرات وتقنيات وأقمار من صنع أجنبي (العدوّ)!.. ثم يدعو إلى مقاطعة منتوجات بلد وهو يستعمل تقنيات هذا البلد وقنواته الفضائية، بشكل مباشر أو غير مباشر، لتعميم هذه الدعوة؟! لكنه لا يتردد في إعلان الصراع والعدوان من خلال فعل "المقاومة"والحفاظ على "الهوية الثقافية".. في العدوان يرى هيجل أنّ التاريخ قد تأسّس على قاعدة الصراع من أجل الاستعراف، أي إبراز الأنا في مقابل الآخر. وقد وصف هيجل في مؤلفه "فينوميولوجيا الروح "الإنسان الأوّل" باعتباره نموذجا للكائن الذي يملك صفات الإنسانية التي تمثل مرحلة ما قبل نشوء المجتمع المدنيّ وتطوّر التاريخ. ويرى أنّ "الإنسان الأوّل" لا يتميّز برغبته في الاستعراف، وإنما يتجاوزها إلى الاستعراف بكونه إنسانا له سمات وخصائص تجعله مختلفا عن الآخرين، وهو في ذلك يمكنه أن يذهب بعيدا من أجل تدعيم هذا "الاستعراف به" إلى أن يصل إلى حدّ المخاطرة بحياته. لأنّ اللقاء الأوّل بينه وبين الناس يدفع بالجميع إلى الدخول في صراعات عنيفة يعمل الجميع على فرض نفسه. بمعنى آخر، إنّ فخر الإنسان لا يقوده إلى مجتمع السلام بل إلى الصراع المحفوف بالموت، والذي يكون الهدف من ورائه هو الحفاظ على "الاعتبار". لذلك سبق لكانط أن قال، بأنّ حالة السلام بين أناس يعيشون جنبا إلى جنب ليست حالة فطرية، إذ أنّ الحالة الفطرية أدنى إلى أن تكون حالة حرب. وهي وإن لم تكن دائما معلنة، إلا أنها على الأقلّ منطوية على تهديد دائم بالعدوان. ثم يضيف مستدركا إنّ "الكفّ عن الحرب ليس بضمان للسلام، وإذا لم يحصل جار من جاره على هذا الضمان(وهو ما لا يتيسر وقوعه إلا في وضع قانوني)فمن الجائز أن يعامل ذلك الجار معاملة من بينه وبينه عداوة". نسوق هنا طرح هيجل بسبب الضجّة الكبرى التي سبق أن أحدثتها "مقولة نهاية التاريخ"، التي طرحها فوكوياما بالاستناد إلى الخلفية الهيجيلية، في عودة إلى الطرح الهيجيلي ومجاوزة الطرح الماركسيّ. بمعنى آخر، إنّ فوكوياما يجعل العالم منقسما إلى قسمين قوى تناضل ضمن التاريخ في الوقت الذي نجد أن التاريخ الحقّ قد تجاوز ذلك التاريخ إلى نهايته (أي المرحلة الديمقراطية الليبرالية). وهو ما يجعل الدول النامية أسيرة صراعات لن تتمكن من التغلب عليها بفعل تواجدها في اللاتاريخ! ولن نناقش ما ذهب إليه فوكوياما، وإنما الذي يهمّنا هو ما عرف ب "الفوضى البناءة" التي جاءت كمرحلة من المراحل التي تؤرّخ لما بعد نهاية التاريخ، أي إنّ الآخر على وعي عميق بكلّ ما يحدث، وهو على وعي بصناعة التاريخ، وكما يقول الأستاذ الرميحي، إن الحضارة الإنجليزية تشتغل وفق منظور "الإصلاح" بالإبقاء على الأمور كما هي عليه مع إدخال بعض الإصلاحات، في حين أنّ الأمريكيين يبنون مشاريعهم انطلاقا من "الهدم الشامل" وتدمير كل شيء، لإعادة البناء وفق ما يرونه هم صالحا، ووفق ما يرسمون ويخططون..وهذا ما يجعلنا أمام وعي مختلف عما يعتقده الإنسان العربي..فكيف يمكننا أن نتحدث عن مفاهيم »المقاومة« و »الانتصار« و »عرقلة السياسات«!؟ الواضح أن الخلفيات الفلسفية التي ينطلق منها الغرب هي أبعد وأكثر تعقيدا مما نتصوره. لأن الإطار العام الذي يتحركون فيه يظل محكوما بتصورات تتغذى من الإرث الفلسفي قبل ذلك كله..وحتى حين نقرأ انتقادات للمنظومة الغربية من قبل مفكريهم، فذلك لا يكون وفق المنظور الذي نعتقده، بقدر ما هو محكوم بتصورات مختلفة، وهي في الغالب تغذيه وتدخل مع باقي المكونات الفكرية في علاقة جدل تنتهي إلى التطور والمحافظة على الذات..فهم في الوقت الذي يناقشون مرحلة ما بعد"نهاية التاريخ" تجد المجتمعات النامية نفسها ما تزال تتعثر في تحقيق "بداية للتاريخ" كما رسمه الآخر وليس كما تريد أن تفهمه هذه المجتمعات..لأن الصدام مع الآخر يمزق الهوية الشخصية عبر مرآته الآخر التي تعكس الذات فيه. بحيث تدرك الذات أنها فقدت نفسها في مواجهتها مع السيد الكلي القدر، بسبب كونها تجد ذاتها كآخر، وتظل الذات من حيث هي عبد للآخر خارج الذات، لأن هذا الآخر لم يرجعها للذات عبر الاعتراف بها. مما يفضح التصادم مع الآخر إلى درجة اغتراب الذات(باربرا ويتمر. الأنماط الثقافية للعنف. عالم المعرفة. - العدد 337. ص.100) فتصبح فاقدة للقدرة على تأمل نفسها، فتنغلق أكثر، وتزدهر صناعة الوهم وتتضخم يوتوبيا العداء بإسقاط كل الوجوه المظلمة على الآخر..