بات شكل النظام العالمي وأنماط تفاعلاته الشغل الشاغل للأكاديميين والباحثين في مجال العلاقات الدولية، خصوصًا مع التغير الحادث في الأوزان النسبية للفاعلين الدوليين منذ نهاية الحرب الباردة وحتى يومنا هذا.ويُعد المقال المنشور بمجلة "ناشنوال انترست The National Interest"، بعنوان "الحياة في عالم بلا أقطاب" Life in a G-Zero World للكاتب والمفكر الأكاديمي "فرانسيس فوكوياما" ، من أهم ما كتب في هذا السياق. الأزمة الاقتصادية وأُفول الهيمنة الأمريكية يفتتح الكاتب مقاله بالتأكيد على حقيقة ما شهدته السياسة العالمية خلال السنين الأربع الأخيرة من تغير متسارع وغير متوقع؛ حيث فقدت الولاياتالمتحدة مكانتها كقوة عظمى مهيمنة، وهو ما كانت تتمتع به منذ سقوط جدار برلين وحتى نشوب الأزمة المالية في 2008، مدللا على ذلك بتفوق ميزانية الدفاع الأمريكية منذ عقد من الزمان على ميزانيات الدفاع لباقي دول العالم مجتمعة، ما ظهر واضحًا في شن الولاياتالمتحدة "حربًا بالاختيار" على العراق.
ويرى "فوكوياما" أنه وبالرغم من أن الولاياتالمتحدة ما تزال تمتلك قوة مهيمنة عسكريًّا، فإن ما تعانيه من وهن باقتصادها يجعلها غير راغبة في استخدامها، ويدلل الكاتب على الأدوار السلبية للولايات المتحدة مؤخرًا من خلال إحجام إدارة أوباما عن القيام بأدوار قيادية في أزمات ليبيا وسوريا، بالإضافة للأزمة في مالي؛ هذا فضلا عن أزمة اليورو الممتدة، التي تنبئ بعجز القوى الأوروبية عن سد هذا الفراغ في القريب.
يطرح الكاتب تساؤلا حول شكل السياسة العالمية في عالم بلا أقطاب (G-Zero World)، مشيرًا إلى أن تلك المسألة تعد عصيبة بالنسبة لليابان والدول التي ترتبط بتحالفات وثيقة مع الولاياتالمتحدة؛ إذ تواجه خيارات حرجة في ظل أُفول القوة الأمريكية.
وأسست الولاياتالمتحدة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لنظام دولي تتكفل فيه منفردة بتوفير عدد من الاحتياجات الدولية الرئيسية؛ بدايةً من تكوين شبكة من التحالفات مع أوروبا وآسيا، بهدف احتواء الاتحاد السوفيتي، هذا بالإضافة إلى المساهمة بنصيب الأسد في توفير الأمن العسكري في كلا الإقليمين، الأمر الذي ساهم في تركيز حلفاء الولاياتالمتحدة على النمو الاقتصادي، وهو ما ينطبق على اليابان التي كان إنفاقها العسكري يقل عن 1% من ناتجها المحلي الإجمالي في تلك الفترة. هذا بالإضافة إلى دور الولاياتالمتحدة في إرساء الانفتاح في نظام التجارة الدولية بدءًا بالاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (GATT)، وصولا إلى منظمة التجارة العالمية (WTO)، فضلا عن العديد من التدابير الإقليمية والثنائية لتحرير التجارة.
ويعتقد فوكوياما أنه لا توجد قوة قادرة على القيام بذات الدور الذي اضطلعت به الولاياتالمتحدة من خلال هيكلة السياسة العالمية على نطاق واسع، وهو ما قد يؤدي، وإن كان ليس بالضرورة، وفقًا لرؤية فوكوياما لأن يتحول العالم إلى وضع فوضوي بلا قواعد حاكمة للنظام.
ويرى الكاتب أن الدور الأمريكي المهيمن خلال السنوات الماضية، كان قد خفف من حاجة حلفائها لتطوير قدراتهم للأخذ بزمام المبادرة لتسوية المشكلات الإقليمية، في حين أن هؤلاء الحلفاء الآن في حاجة لتولي المسئولية؛ وعليه ينوه الكاتب إلى أن سلوك شركاء الولاياتالمتحدة، ورغبتهم في تدعيم بنى سياسية متعددة الأطراف، هما المحددان الأساسيان لشكل ونمط السياسة العالمية ما بعد أُفول الهيمنة الأمريكية.
الدور الأمريكي والشرق الأوسط يُشير فوكوياما إلى أن رغبة إدارة أوباما في عدم الانخراط في التزامات جديدة في أعقاب الربيع العربي، حمل بريطانيا وفرنسا العبء العسكري الأساسي في الحالة الليبية، مع دور أمريكي في الخلفية تمثل في دعم لوجستي ومخابراتي، ويبدو أن السيناريو ذاته يتكرر في مالي، حيث تدخلت فرنسا لوقف تقدم الإسلاميين في جنوب البلاد.
بيد أن الاختبار الحرج للبنية الأمنية الجديدة، وفقًا لفوكوياما، سيكون في قارة آسيا، خصوصًا وأن الصعود الصيني كقوة عظمى يمثل أكبر وأعقد تحدٍّ يواجهه النظام العالمي اليوم، مقارنة بصعود ألمانيا الموحدة بعد عام 1871، وفقًا لرأي الكاتب. ويضيف، أنه إذا ما أردنا تجنب أخطاء الماضي، التي أفضت للحرب العالمية الأولى؛ فإن الحاجة ماسة للتفكير في آليات جديدة للتعامل مع القوة الصينية في المستقبل.
ويدلل الكاتب على تنامي القوة الصينية مؤخرًا، من خلال ادعاءات الصين الإقليمية المتكررة في بحر الصين الجنوبي وجزر سيناكوكو / دياويو. ويلفت فوكوياما النظر إلى أن الصين ما قبل 2008 كانت مُقلة في إثارة مثل تلك القضايا، باذلة قصارى جهدها لتظهر على نحو لا يمثل تهديدًا لدول الجوار، إلا أنها، أي الصين، على ضوء النمو الاقتصادي المضطرد، والضعف البادي على القوى العظمى الأخرى، تنامى طموحها ومطالبها، على نفس النهج الذي سلكته القوى العظمى من قبل.
وبحسب فوكوياما، فإنه لا مصلحة لأي طرف في آسيا في تصاعد النزاع الإقليمي إلى صراع عسكري، فبشكل نظري تبدو هذه النزاعات قابلة للحل، من خلال إطار متعدد الأطراف، متضمنًا الصين؛ خصوصًا وأن العائد الضمني من تلك النزاعات رمزي أكثر منه حقيقيًّا. ويستدرك الكاتب أن الإطار التفاوضي المناسب يتطلب قدرًا كبيرًا من الجهد الدبلوماسي، وهو ما لا ينعكس بشكل عملي على أرض الواقع، علاوةً على تنامي النزعات القومية لدى الأطراف جميعها.
وتدرك الصين جيدًا أن صعودها يمثل تهديدًا لمصالح العديد من جيرانها، وعليه فإن جهودها الدبلوماسية تهدف إلى منع دول الجوار من العمل بشكل جماعي في مواجهة مطالباتها الإقليمية، وهو ما ظهر في رفضها أن تناقِش الدول الأعضاء برابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) المسائل الإقليمية بشكل جماعي فيما بينهم، وإنما يجب أن تكون النقاشات بشكل ثنائي مع الصين حيث يمكنها أن تفرض هيمنتها.
وبحسب فوكوياما، فإن الولاياتالمتحدة تدفع باتجاه أن تتبنى دول الآسيان (ASEAN) موقفًا موحدًا، وهو موقف مسوغ وضروري، وهو ما أثار غضب الصين.إلا أنه وبخلاف جهود كل من فيتنام، والفلبين، وبعض دول الآسيان لتكوين جبهة موحدة، فإن الصين ما تزال قادرة على تقويض تماسكهم، ويبرهن الكاتب على ذلك من خلال فشل قمة الآسيان (ASEAN) الأخيرة في بنوم بنه Phnom Penh للوصول لاتفاق نظرًا للمعارضة الكمبودية، التي وقفت إلى جانب الصين.
والوضع في شمال شرق آسيا أسوأ من ذلك، هكذا عبر فوكوياما عن الوضع، مؤكدًا على ضرورة وجود تنسيق استراتيجي واسع قائم على أهداف مشتركة بين اليابان وكوريا الجنوبية فيما يتعلق بالتعامل مع الصين على المدى البعيد، فكلٌّ منهما، أي اليابان وكوريا الجنوبية، دولتان ديمقراطيتان، وحلفاء للولايات المتحدة، وكلاهما عرضة للضغوط الصينية. إلا أن اليابان لا تزال حتى الآن معزولة بشكل كبير في المنطقة كنتيجة لبقاء القضايا التاريخية بين اليابان وجيرانها عالقة، ويستدرك الكاتب أن مزيدًا من العمل الدبلوماسي المحنك سيُمكن من تجاوز تلك القضايا في صالح التعاون الاستراتيجي طويل الأمد.
ومن وجهة نظر فوكوياما، فإن إدارة أوباما تتصرف على نحو ملائم بتمحورها حول قارة آسيا، عن طريق طمأنة حلفائها الإقليميين، والدفاع عن حق الدول التي تشعر بأنها مهددة من الصين في التباحث فيما بينها للوصول لحلول جماعية؛ إلا أن الوضع المالي للولايات المتحدة يفرض قيودًا متزايدة على قدرتها على الوفاء بالتزاماتها. ففي حين تقوم الولاياتالمتحدة بإعادة تخصيص بعض قواتها إلى آسيا، إلا أن المنحنى طويل المدى لميزانية الدفاع الأمريكية في هبوط. ما يعني، وفق رؤية الكاتب، أن ميزان القوة الإقليمي يميل لصالح كفة الصين.
علاوة على ذلك، فعلى الرغم من الالتزام الأمريكي بالاتفاقية الأمنية مع طوكيو، فإن تصور أن إدارة أوباما قد تجازف بصراع عسكري مع الصين بسبب مجموعة من الجزر غير المأهولة في منتصف المحيط الهادي بات تصورًا غير دقيق، بحسب الكاتب.ويرى فوكوياما، أن الاستجابة الملائمة للتغير في الظروف المحيطة لا تتحقق بمزيد من الفردية من جانب اليابان، أو كوريا، أو أيٍّ من دول الآسيان (ASEAN)، خصوصًا وأن إدارة آبي الجديدة في اليابان، تجازف بخسارة أقرب حلفائها، بما فيهم الولاياتالمتحدة، إذا ما أصرت على الدفاع عن مقولات قومية معينة من القرن العشرين.
ويضيف الكاتب، أن جيران الصين على قدر من الضعف، لا يمكنهم من مواجهة الصين بشكل منفرد، ما يدعو للحاجة إلى تبني بنية علاقات جديدة متعددة الأطراف، ليس الهدف منها "عزل" أو "احتواء" الصين، وإنما خلق قدرة تساومية، ما يُمكن من تسوية سلمية للمنازعات الإقليمية، وذلك بتعاون الصين. ويؤكد الكاتب على حقيقة نمو القوة الصينية، وأن على الجميع التعامل مع الواقع، وإيجاد الطرق لاستيعابه والتكيف معه. نظرة إلى المستقبل تضمن النظام الدولي الناشئ بعد الحرب العالمية الثانية اضطلاع قوى أخرى بمهام السيادة في كل من ألمانياواليابان. في حالة ألمانيا قامت بها منظمات متعددة الأطراف وهما الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي (NATO)، ما أفضى إلى تضمينها بشكل كامل. أما في حالة اليابان فقد قامت الولاياتالمتحدة وحدها بهذا الدور وفقًا للمعاهدة الأمنية. ويضيف فوكوياما أن بقاء القضايا التاريخية عالقة يعيق ظهور إطار واسع متعدد الأطراف ليكون بمثابة داعم مساند للقوة الأمريكية، وهو ما تثور الحاجة إليه.
وأخيرًا، يشير فوكوياما إلى أن الفرصة سانحة لصنع بنية جديدة للسياسة العالمية في عالم بلا أقطاب (G-Zero World)، لم يتم اختراعها في واشنطن، وهو ما سيتطلب قدرًا كبيرًا من القيادة والبصيرة من اليابان وآسيا.