اختلط الحابل بالنابل، وأوشك اليمنيون على الضياع في زحمة الاعتصام والتظاهر وبين أزيز الرصاص ودوي القنابل وأدخنة المقرات، وبين كذب هذا ونفي ذاك، ومهازل استقالات وانضمامات واقتحامات، وتفجيرات واغتيالات، وبات مستحيلاً للمرء أن يقتنع أن هذا هو زمن الثورات، وأن تجار السلاح هم من يحققون سلام الشعوب!! قبل عقود كانت شعوبنا تنتفض في الشوارع لتؤمم ثرواتها النفطية من أيدي القوى الإمبريالية، واليوم يقول اليمنيون: إن لديهم «ثورة»، لذلك فجروا أنابيب النفط، واصطفوا بالبنادق يتبارون في «نصع» أبراج محطة الكهرباء الغازية، وفي اقتحام المقرات الحكومية وإضرام النيران فيها، وتخريب كل ما طالت أيديهم من ممتلكات عامة. يقال في اليمن: إن (الثوار) لديهم مطلب وحيد هو «رحيل النظام» فإن كان ذلك حقاً مطلبهم فهل فجروا أنبوب النفط بمأرب خوفاً أن يحمله النظام معه عند الرحيل!؟ وهل يطلقون النيران على المحطة الكهربائية لئلا يخطفها النظام فينعم بالنور ويترك الشعب غارقاً في الظلام!؟ وهل يخربون ويحرقون الممتلكات العامة لأن ثمة نوايا للنظام المطالبة بها بعد رحيله فاستبقوه بفعلهم لحرمانه الانتفاع منها...؟!. ما يحدث في اليمن ليس ثورة تغيير كما أرادها الشباب الذين أنشأوا ساحات الاعتصام قبل نحو خمسة أسابيع، وإنما وجدت من يخطف أهدافها ويحولها إلى ثورة على الوطن... فحين يقدم الإقطاعيون أنفسهم قادة للثورة فلا مفر للشباب من التساؤل: على من سيثورون إن كانوا هم ناهبي قوت الفقراء..!؟ وحين يعلن تجار السلاح أنفسهم زعماء للثورة فلا مناص للمقهورين بقوة السلاح من التساؤل: على من سيثورون إن كنا نحن من تم نهبهم وظلمهم تحت تهديد السلاح؟ وحين تتفاخر الأحزاب أن قبيلة ما انضمت إلى ساحة التغيير، وبين الفينة والأخرى تهلل وتكبر لانضمام الشيخ الفلاني إلى صفوف دعاة التغيير، فلن يجد الشباب بداً من التساؤل: على من ستثور المشائخ والقبائل إن كان ما تبقى من المجتمع هي القوى المدنية الحالمة بالحياة العصرية.. وإن كانت هذه القوى هي القاعدة الابتزازية التي لا تترك موقفاً بغير مساومة!؟. عندما يتكالب أكبر مهربي المشتقات النفطية، ومافيا تجارة الأدوية المهربة، والوكلاء الاحتكاريون لتجارة المواد الغذائية، ووكيل الشركة التي وراء فضيحة صفقة الغاز المباع برخص التراب، وطابور طويل من القابضين على ثروات البلاد، والمتلاعبين بأسواقه، ويضعون أنفسهم في الصف الأول للثورة فإن الفئات المطحونة من الشعب محتماً ستسأل: على من سيثور هؤلاء!؟. لاشك أن الشباب الذين حملوا أحلام التغيير إلى الشوارع سيعرفون حينئذ لماذا يتم تفجير المنشآت النفطية والكهربائية وإحراق المؤسسات الخدمية وتخريب كل ما هو قائم... فذلك كله مشاريع استثمار وتجارة وصفقات لما بعد التغيير... فإن بقي كل شيء على حاله فما جدوى انضمام ذلك الطابور الطويل من المتنفذين إلى الثورة!!. حاولت استقراء آراء الشارع اليمني فوجدته محبطاً، إذ إن الناس مجمعون على ضرورة التغيير الإيجابي الذي يصلح أوضاع البلاد ويحررها من الفساد والانتهاكات، وكانوا يجدون في الشباب أملاً كبيراً، ووجهاً براقاً مفعماً بالحيوية والإرادة، ويعولون عليهم بالشيء الكثير، لكنهم اليوم ما عادوا يرون وجوه الشباب ولا يسمعون أصواتهم، فهناك من يحترفون اللعب مع كل الأنظمة وفي كل الأزمنة.. فهذا عصر يحكمه المال والمصالح، ولا مكان للقيم الثورية فيه... فكما يشتري البعض أصوات الناخبين البسطاء بماله، هناك أيضاً من يسحق أحلام البسطاء بماله وجاهه ونفوذه... هذا هو ديدن العرب لا يأتي زمانهم بما هو أفضل من سابقه، وكما يقول المثل الشعبي اليمني: (راح من الزمان أحسنه... حتى السّرق)!.