إن كثيراً من مفاهيم الاستبداد نعايشها كل يوم في مؤسساتنا وجامعاتنا ووسائل إعلامنا كل هذا ما زال من ثقافة ماضية كرسها النظام... ولعلّ من نافلة القول بأن شعبنا يعاني ومنذ عقود لا بل منذ قرون من الزمان، من ثقافة الاستبداد، الاستبداد السياسي والفكري والاجتماعي...ثقافة استبداد شاملة لا تفرق بين مجال ومجال ، وأضحت هذه الثقافة تفرض نفسها على كثير من شرائح مجتمعاتنا ، في الوقت الذي تمكنت فيه أمم الأرض المتحضرة من شطب كلمة "استبدّ" وأخواتها من قواميسهم الفكرية . فالبعض يعتبر أن القائد لهذه المؤسسة أو الوزارة أو الإدارة هو الرأي الفذ الذي لا يقبل النقاش ولا التعديل ، لأنه يعد نقصاً في قدر هذا المدير أو تلك المؤسسة . إن ثقافة تكميم الأفواه ومصادرة الآراء والحريات ولغة القمع والإقصاء لا تزال تعشعش في رؤوس بعض النخب الفكرية والثقافية والعلمية والسياسية في أمتنا التي يمارس النظام من خلالها استبداده ، ولسان حالها كما قيل قديماً "إنّما العاجز من لا يستبد" . ثمة لوناً آخر من أشنع وأقسى أنواع الاستبداد هو الاستبداد الاقتصادي ...البعض لا يراه استبداداً ..فيما الأمم الحيّة واليقظة تعتبره أشنع أنواع الاستبداد، ولذا تخرج الملايين من البشر إذا ما رَفعت حكومة غربية أو أوربية سعر السلع اليومية أو البنزين كذا سنتاً..وربما تسقط حكومات ودول لمثل هذا القرار، في دنيا الغرب ، لكن الأمر عندنا يختلف تماماً فتجد الأسعار ترتفع مثلا 100% أو حتى 200% وكأن شيئاً لم يحصل ، بل تجد أنّ البعض يتغنون – مع هذا - صباح مساء بالحرية والديمقراطية والتنمية ...فيما آلاف الناس يتساقطون جوعاً، لا يجدون ما يسد رمقهم...أنّى لمثل هؤلاء أن يتكلموا عن حرية القول..وهم لم تعد لديهم ألسن يتحدثون بها، أو أعين يبصرون بها ، في ظل صراع الحياة المرير وذلها وقهرها الأليم في معركة الخبز ، أو معركة الخبز النظيف . وتجد من يتغنى ويرفع شعارات الحرية والديمقراطية والمساواة والتنمية ... فيما يمارس أشنع ألوان الاستبداد الحزبي حيث يسخّر كل مقدرات البلد والأمة لأجل بضعة مئات أو آلاف من أفراد هذا الحزب، هو الذي تجبى إليه الأموال والخيرات والثروات، فأي استبداد - أيها العقلاء - أعظم وأشنع وأقبح من هذا!!. إن الغرب لم يتقدم هذا التقدم الهائل إلا بعد أن حسم مسألة الحريات وقضى في الجملة على كل صور الاستبداد، فتفجّرت بعد ذلك العقول ونشأت الشركات والمؤسسات والمصانع ومراكز البحث العلمي والجامعات والمراكز العلمية والتقنية وعلت سيادة القانون والنظام والقضاء، وأضحى كل من في السلطة والمجتمع صغيراً كان أو كبيراً – بلا استثناء- يخضع للنظام والقانون . وأضحى كل فرد في الأمة يستطيع أن يقاضي كل مسئول في السلطة حتى الرئيس والوزير والجنرال...، وتقف معه كل فئات المجتمع ومنظماته ومؤسساته الإعلامية والدستورية ، وذلك بعد أن رفع الغرب شعار "رأيك خطأ.. لكني مستعد أن أقدم لأجله كل ما أملك" وما ذلك إلا ضماناً للحريات. بخلاف وضعنا المعاصر للأسف، فالحاكم لا يُعقل أبداً أن يجانب الصواب!!. ومحال أن تحتمل قراراته الخطأ أو حتى عشر معشار الخطأ ، ولذا نجد كثيراً من العقول والقيادات الفكرية والعلمية والشخصيات الأكاديمية تهاجر بعقولها وعلومها ومعارفها عن الوطن ا ، بحثاً عن نسائم الحرية الفكرية المفقودة والغائبة في بلدنا . ولا يعني هذا تمجيد الغرب أو أنّ ليس لنا مثل يحتذى به في واقعها المعاصر إلا الغرب ، كلا ...إن أمة القرآن سبقت الغرب في حسم قضايا الحريات والكرامات قبل أكثر من 14 قرناً من الزمان ، وأعلنها الخليفة الراشد عمر الفاروق بقوله: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ..اضرب ابن الأكرمين " وكانت لغة العدالة والمساواة والحرية هي ثقافة المجتمع الإسلامي كله حتى أنّ أحدهم يقول للخليفة: " لم تلبس ثوبين ويلبس المسلمون من ثوب واحد؟! " ولا ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، لأن الأمر عندهم طبيعي . فيم الغرب لم يصل إلى هذه القناعة إلا بعد ثلاثة عشر قرناً أي قبل نحو من مائتي سنة إبّان الثورة الفرنسية والتي بدورها غلت في جانب الحريات فأطلقت لها العنان حتى ألغت جزءاً كبيراً منها ، وصادرته ، من حيث تشعر أو لا تشعر ، وهاهي تجني الثمار المرّة والأليمة في كل شؤون حياتها لا سيما في الجانب الإجتماعي والأسري ، لكن يبق القول أنّ الغرب حقّق تقدماً ملحوظاً وملموساً في مجال حرية القول أكثر منا التي تشرعن للاستبداد والكبت والقهر والظلم كل يوم ، وما مثال نضال نقابة المعلمين والصحفيين ببعيد. على أن هناك بيارق أمل في التغيير نحو الحريات ووجود بعض المتنفسات في هذا الصدد هنا وهناك ، وهذه المؤشرات تبشّر أيضاً بأن الشعب يسعى جاهداً لاسترداد حريته وكرامته ، ونبذ الاستبداد والتسلط والديكتاتورية ، فمن ذلك : وجود خطاً متميزاً ورائعاً ورشيداً للتعبير عن الرأي ، بتأسيس أدوات المجتمع المدني من خلال (النقابات والمنظمات والهيئات ) والمجتمع السياسي بوجود أحزاب حقيقة ، و وهو يعد متنفساً للآراء ممتازاً وفريداً ، في جو من التمحيص والدراسة والبحث ، بعيداً عن غوغائية الآراء ، وعشوائية القرارات ، وهي خطوة جديرة بالإشادة والذكر والإطراء . والذين يؤمنون بحرية الرأي ونبذ التسلط والاستبداد - ، حيث نجد ثمة إرهاصات ومبشرات بعصر جديد للحرية والكرامة ، بعد طول زمن من الكبت والمصادرة والإلغاء والإقصاء ، في ظل عالم يؤمن كله بمختلف أجناسه وأديانه ومؤسساته بحرمة الاستبداد والقهر والطغيان . ولعلنا بعد قرون من الاستبداد والظلم نعي أو نكاد أن نعي قوله تعالى كما في الحديث القدسي:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظّالموا" . أحمد الاكوع [email protected]