تجربة الحوار الوطني الشامل فريدة وغير مسبوقة في تاريخ بلادنا، ويعول عليها كثيرا في إخراج البلد إلى بر الامان ، ومع ذلك لا يزال هناك من يكرر الأخطاء القديمة مجددا ، وكأن هناك من لا يتذكر ولا يعتبر، ويلاحظ أن المزايدات والطيش والجشع والمغالطات لا تزال تسود وتسيطر وتتحكم لدى بعض القيادات والفئات، وكأن المسألة أقرب إلى الثقافة وليست مجرد سياسة وتكتيك وإجراءات ومساومات... كان تحقيق الوحدة أهم إنجاز وطني تاريخي يمني منذ قرون، ولسنا ندري هل سيحتفظ التاريخ لأصحاب ذلك الإنجاز بشيء من التقدير، أو على الأقل الإشارة إلى الدور ، لكننا على يقين إن التاريخ لن يغفل ولن يغفر لهم الاخطاءالجسيمة التي ارتكبت أثناء وبعد تحقيق الوحدة، ومن تلك الأخطاء التسرع والارتجال وحرب 1994 والفساد الكبير الذي ساد بعد تلك الحرب ,، التي كان يمكن تحاشيها لو سلم قادة الوحدة، من الأنانية والطيش والنزق والتطرف ، والمزايدات، والحسابات الخاطئة.. ويلاحظ اليوم ما يشبه تلك الظواهر والعجايب، والغرايب، وبالتحديد في بعض تصرفات ومواقف بعض قادة الحراك وانسحاب أشخاص منهم من مؤتمر الحوار، تحت ذرائع ومبررات ليست معقولة ولا مقبولة.. لم يكن نظام الرئيس صالح وحده المسؤول عن حرب 1994، كما يشاع الان ، لكن طيش الطرف الاخر، وتطرفه وتناقضاته وقصر نظره وخطأ تقديراته ، كانت سببا رئيسيا اخر لتلك الحرب التي نتج عنها إخراج شركاء الوحدة من المعادلة ونتجت عن ذلك مشاكل وتعقيدات ومعضلات لا حصر لها .. ولم يكن السفير الأمريكي مجافيا للحقيقة، عندما قال إن على البيض تقديم الإعتذار للشعب اليمني، كونه المتسبب في حرب 1994.. وأتذكر أن حيدر العطاس رئيس الوزراء السابق المتميز كان قد لام البيض حينذاك على الإعتكافات، التي بدأها في شهر أغسطس 1990، إثر اندلاع أزمة احتلال العراق للكويت.. وقد وجه السيد العطاس تلك الملاحظات في مقابلة أجراها في جنيف مع صحيفة الشرق الأوسط.. وأذكر إن مما قاله العطاس حينذاك، هو إن إدارة الدول ومعالجة المشكلات لا تحل بالإعتكافات.، وربما يحسن القول للمعنيين اليوم ، الذين نحترمهم على مستوى الشخصي، إن قضايا الوطن المصيرية لا تحل بالإنسحابات..! طيلة فترة الثلاث السنوات التي سبقت حرب 1994، كان البيض مرة يعتكف، وأخرى يظهر على الناس خطيبا بليغا، يتبنى قضايا الشعب اليمني كله، ويعبر عن الأحلام والتطلعات في البلد المحترم الموحد الذي صار رقما كبيرا ويصعب تجاهله، على حد تعبير البيض نفسه.. ولم يكن البيض ينسى أن يوجه سهام نقده للرئيس السابق صالح التي تمت شيطنته بما فيه الكفاية في ذلك الوقت... وحظي البيض بسب ذلك بشعبية كاسحة، لدى الأوساط الشعبية.. وتوارى صالح الذي كانت علاقاته بالناس في مستوى متوسط ودون المتوسط ، ولم يكن قادرا على مجاراة بلاغة البيض، الذي لو استمر يناضل في ظل الوحدة، لكسب الشعب اليمني كله في الشمال والجنوب ولتغلب في النهاية على غريمه اللدود وشريكه من قبل ، حيث لم يكن الشعب مشرذما نفسيا ووجدانيا وعقليا وعقايديا، مثلما عليه الحال اليوم، بل كان على استعداد للإلتفاف حول من يجسد الأهداف الوطنية الكبرى وأهمها الوحدة والعدل .. ولما أدرك الناس حقيقة مقاصد البيض، نحو الإنفصال، خاصة بعد زيارته الشهيرة وآخرين من القادة المتوافقين معه لدول خليجية لم تكن تدعم الوحدة حيذاك، بعد توقيع وثيقة العهد والاتفاق في عمان ، مباشرة، أنفض الناس من حوله..ولم يكن الأمر مفاجئا أن يلتف الناس حول غريمه ولو على مضض، الذي رفع شعار "الوحدة أو الموت" ولم يكن ذلك الشعار مرفوضا في ذلك الوقت، كما أن الوقت لم يكن كاف ليسعف معسكر الإنفصال لشيطنة الوحدة مثلما عليه الحال اليوم ، وتحميلها أوزار وإفك لا علاقة لها بهما .. لم تكن حرب1994 حرب الشمال ضد الجنوب كما يحرص كثيرون على تأكيد ذلك ، بل إن الجنوب هو الذي انتصر للوحدة و دحض الإنفصال، بالفعل، وكان أبرز القادة الميدانيين الجنرال المحترف الرئيس الحالي، عبد ربه منصور هادي .. كان جل شعب الجنوب أيضا مع الوحدة.. وعلى الرغم من سعي البيض وفريقه نحو الانفصال وممارسته على أرض الواقع ، لم يكن يجرؤ أحد منهم على التلميح بذلك.. كانوا يتحدثون عن أشياء أخرى ، لكنهم في كل المناسبات يتحدثون عن الوحدة التي انتهت ولم تعد موجودة، كان ذلك أيضا قبل الحرب.. ! وعند ما حسمت الحرب لصالح الوحدة ، ظهرت بلادة الذي ظنوا أن تلك الحرب ستكون نهاية التاريخ، وظهر الفساد في كل شيء ، وتفشت عنجهية و غرور منقطع النظير، مس الجميع في كرامتهم وحقوقهم ومكانتهم بما في ذلك جنوبيين شاركوا في الحرب لصالح الوحدة، ولم يسلم من ذلك الرئيس هادي نفسه الذي كان نائبا للرئيس من بعد الحرب ولكن بدون صلاحيات تذكر .. ومع ذلك لم يتزعزع إيمان هادي بالوحدة ، وقال لي ذات مرة : لقد خلقت وحدويا.. وقال لي قيادي جنوبي كبير آخر، في حضورعدد من الجنوبيين، في رمضان الفائت، معلقا على موضوع الإعتذار الذي كان يجري الحديث عنه حينذاك ، يجب أن يكون الاعتذار عن نتائج تلك الحرب، أما الوحدة فلا مبرر للأعتذرا عن الحرب من إجل الحفاظ عليها، ولو تعرضت لأي مخاطر مجددا فسنحارب من جديد في سبيل الحفاظ عليها، مثلما تفعل جميع الأمم..! والحق فقد كانت الحقبة التي تلت حرب 1994 فترة عبث وفساد وتدهور وطني وقيمي شامل ، تستلزم الأعتذرا، ولعل الدكتور عبد القوي الشميري يتذكر الحديث الذي دار بيني وبينه ليلة 7/7 / 1994 عند ما رآني واجما وحزينا، وتساءل عن السب؟.. فقلت سيسود الفساد بعد هذه الحرب..! وقد ساد فساد لم يتخيله أحد ، وكان اشمل وأوسع وأخطر وأعمق مما تخيلته أنا أيضا.. وبعد صبر طال بعض الشيء، وبعد تلاشي آمال الأصلاح، تملل الشعب في الجنوب وانتفض في الصورة التي سميت بالحراك، ثم لحقه الشمال في ثورة شعبية عارمة، تمهد الطريق لتغيير وإصلاح وطني شامل، في ظروف لا تخفى صعوبتها وتحدياتها وتعقيداتها .. ولا تخفى الحاجة إلى الزمن والصبر.. ذات مرة قلت أن الجنوب لن يضام ولن يظلم في عهد الرئيس هادي وما بعد عهده أيضا .. والرئيس هادي وهو الرجل الحصيف المتزن الحازم ، يدعم تاسيس نظام حكم يحقق العدل لكل اليمن، وأول بوادر ذلك النظام هي الآلية التي اعتمدت في الآلتحاق في كليات العسكرية والأمنية هذه السنة، وهذه الالية وإن كانت لا تزال في بدايتها لكنها مؤشر يدل على رؤية وتوجه يحقق تكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد، في أهم مؤسسة وطنية، شاب السيطرة والأستحواذ المناطقي والعشائري عليها خلل وعيوب وقصور تخل بقضية العدل وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد..قبل ثورة الشباب تحدثت عن مظالم في هذا الصدد في أكثر من مناسبة ،،وذكرت أن عدد القادة العسكريين في مديرية مكيراس التي ضمت إلى محافظة البيضاء أكثر مما لدى محافظة البيضاء بأكملها.. وتأكد لي حجم الإختلال بعد أن سألني وزير الدفاع قبل أيام ، هل يوجد ضابط من البيضاء مؤهل ليكون قائد لواء ، فلم أعثر على أحد..!؟ وذات مرة ، وقبل ثورة الشباب أيضا أشرت في مقال بعنوان " عشرين عام من العبث " إلى أحد أهم مظاهر العبث، وهو حال الجيش الوطني الذي عايشت وحدات منه أربعين يوما في حرف سفيان.. ولفت نظري هناك حديث القادة عن القائد الذي لا يرى الشمس، وهو ينتمي إلى عشيرة نافذة في الجيش لم يستطع وزير الدفاع اقتراح تغييره، حينذاك ، واكتفى باقتراح تعيين أركان حرب للواء يتمتع بالشجاعة والكفاءة العالية...! طيلة الأربعين يوما لم نرى ذلك القائد المقرب، وكنا نسمع كثيرا عن مواجهات الأركان معه، وهو ضابط متميز، وشهدنا مظاهرات المجندين، وهم يطالبون بحقوقهم المالية التي أجبر ذلك القايد المرفه على إحضارها من بيته في صنعاء.. ! وصدق الرئيس هادي عند ما يقول : جيوش العشيرة والقبيلة لا تقاتل ولا تحمي حياض الأوطان، حيث يكون همها الكسب والفيد..! وتكون الهزيمة من نصيبها دايما..! ورأيت الهزيمة في صعدة وحرف سفيان ، ليس لبسالة الذين يقاتلون الجيش هناك، أو لعدالة قضيتهم ، لكن الجيوش التي تستحوذ عليها أو على أهمها العشائر لا تنتصر.. ! يدرك الرئيس هادي أنه رئيس لكل اليمن، ومع ذلك فهو يتبنى المعالجات العملية والمسؤولة للقضية الجنوبية التي يعرف طبيعتها وأبعادها، وحقيقة علاجها.. وهو ليس بحاجة لمن يذكره أو يزايد عليه فيما يخص الجنوب .. ومع أنه رئيس اليمن كلها فهو أيضا ابن الجنوب ، وقد شرع يسمي الأشياءد بأسمائها، عند ما يعلن في وجه المزايدات والمغالطات إن ملامح الحل لقضية الجنوب، أفضل بكثير مما تحقق للجنوب في 1990' ، أو ما تضمنته وثيقة العهد والاتفاق عام 1994.. وقد يضطر فخامته لاحقا لقول ما هو أكثر وضوحا مما سبق وقد يكون ذلك مطلوبا منه أيضا ، وحينذاك سيكف المزايدون، الذين صمت بعضهم أكثر من خمسة عشر عام، دون كلام.. ولما سنحت الفرصة انبرى يدفع هذه المرة في سبيل الكراهية على أسس جهوية لا عهد لأهل اليمن بها..