كل شيء في هذه الدنيا راحل، وإن لم يرحل فإنه يتغير،وما التغير إلا رحيل الذي تغير ليحل محله راحل جديد. ومن الطبيعي أن تأتي فكرة الرحيل في هذه المجموعة منصهرة بفيض من الأشجان، وهكذا حال الإنسان الذي تؤرقه الرغبة في الخلود رغم أنه على يقين من أنه فان، مثلما تشغله فكرة الثبات رغم أنه على يقين من أنها دنيا الأغيار. تدليلاً على ما سبق، تقول الراوية في (أنشودة العصافير): (أحياناً يحدث أن أفتش عن ياسمينة بيضاء جفت أوراقها بين صفحات كتاب، وأغرق في بكاء عميق). وتقول أيضاً: (هاهي لوعة الفراق تتنازعنا مثل أطياف زهو تختال بيننا فنسير ولا نراها). ويقول الراوي في (أشجان الرحيل): (اليوم أعرف فداحة الخسائر وعظمة العطاء، بل وأشعر بمرارة فقده إذا ما حلّ بين يوم وليلة. أجنب نفسي التفكير في لحظات رحيلهما يوماً عني. أستطيع أن أتبين ذلك الخيط الواهن بين الظلام والنور. بين الأبيض والأسود. بين البصر والبصيرة). وفي (أغنية للقلب) تقول: (أحببتك جداً وما كنت أدري أن ما مر سيظل جداراً فاصلاً بيننا، يحن علينا طيفه كلما اقتربنا. أحمل أقدامي الحزينة وأواسي قلبي الذي عاش يجتر أحزانه بلا جدوى. قلبي هذا الذي مل من طول الرحيل فكره العودة). تلك الأشجان المرهقة، التي تشف عن أنبل ما في الإنسان من مشاعر سامية،لا يثيرها فينا رحيل الأحباء عنا فحسب، بل يثيرها أيضا رحيل أجمل أيام العمر التي ولت إلى غير رجعة، وقد استحالت إلى ذكريات،كما تثيرها أيضاً فكرة رحيلنا نحن - المؤكد - عن كل هؤلاء يوماً ما، سواء أجاء هذا الرحيل فجأة أم جاء على انتظار وترقب. إنه الفقد الذي لا مفر منه للناس والأشياء. إنه كل ما يهرب منا أونهرب منه، والذي يصفه الراوي في قصة الهارب قائلاً: (أبحث عن أثر له حتى لا يصبح ذكرى مثل حكايات الغريب، تظل تركض طيلة حياتك لكي تجده، سأعلن عن فقدانه في كل جريدة. سأنادي عليه عند زخات المطر، وعند اقتراب كل سفينه، وسيعلو يوما صوته القادم من أعماق الغيب). إنني أشفقت على الكاتبة من محاولتها التراجيدية الإنسانية المحكوم عليها بالفشل. محاولة الإمساك بالزمن وتثبيته دون جدوى. تلك الفكرة الساحرة الملعونة التي أمضى فيها جمال الغيطانى عمره وتاريخه الأدبي فكانت كل أعماله تحوم حولها بجنون، لكنها لم ولن تتحقق، غير أنها أفرزت لنا أعمالا أدبية رائعة - اختص بها الغيطاني - كان شغلها الشاغل هو تلك العلاقة الرهيبة بين الزمن والإنسان. هذه المجموعة (أشجان الرحيل) حسبما تذوقتها هي مقطوعة شعرية رومانسية منثورة بحزن وجودي شفاف رقيق، حالمة طائرة في فضاء فلسفي مضبب بعوالم الغيب والمجهول التي لا يملك الإنسان أمامها غير الشعور بالعجز والضآلة أمام خالق هذا الكون العظيم بملكه وملكوته.