عرف (صباح عطوان) بمنجزه الدرامي من خلال عشرات الأعمال التلفازية والإذاعية والمسرحيات ذات النكهة المتجذرة في الروح العراقية، لاسيما مدينة بغداد المعروفة بإرثها العريق، وتمسكها بالعادات والتقاليد التي باتت سمتها، تمسكاً عجيباً، فهي وأجواؤها صنوان لا يفترقان. لكن غير المعروف عند مشاهدي ومتابعي الكاتب الدرامي، أن بداياته وهوايته المحببة في مقتبل عمره كانت كتابة القصة القصيرة والرواية، قبل أن يأخذه المسرح والسيناريو في سنينه اللاحقة. وقد عرفت جزءاً من حكاية بدايته خلال لقاءات عائلية فوق عشب (متنزه الزوراء) ببغداد في أوج عنفوانه، حيث كان يلمنا عند افتتاحه بداية سبعينيات القرن المنصرم في جلسات بريئة ونحن في الشوط الأول من ارتباطاتنا الزوجية، وكان ثالثنا الزميل الطيب قاسم المعمار وعائلته. وفي تلك الفترة كنا نزرع وعوداً لذواتنا ونقطف منها أحلاما. كانت فترة عمر شقي لكنها (شقاوة) ملأى بالطموح النقي لتحقيق ما نصبو إليه في قطار الحياة. أليس الزمن ساعات تمر وثواني تفلت؟ كان الصديق صباح عطوان، آنذاك، يعمل موظفاً إعلامياً في الاتحاد العام لنقابات العمال وأنا وزميلي المعمار من صحفيي جريدة (الثورة). كانت بناية الجريدة وبناية اتحاد العمال قريبة لبعضهما، جمعهما شارع (أبو نواس) بمحاذاة شارع (السعدون)، ولا زلت أتذكر حديث غازي مجدي (عضو المكتب التنفيذي للاتحاد، مسؤول الثقافة والإعلام)، معي وبحضور محمد عايش (رئيس الاتحاد في النصف الأول من عقد السبعينيات) وهو يشيد بألمعية الصديق صباح عطوان، قائلا إنه سيكون أحد أبرز الكفاءات في الكتابة المسرحية، وأظن أن هذا الرأي جاء في أعقاب نص كتبه صباح وأعطاه لمجدي لقراءته.. والله أعلم!. وربما يسأل البعض عن معنى هذا الاستطراد وهذه الخلفية الأخوانية، وهنا أقول إن صديقي الأثير، أصدر مؤخراً رواية طويلة ب 366 صفحة من القطع المتوسط باسم (المسْ) أفرحتني في تماسكها وبنائها الفني وآلمتني في طريقة تسويقها، بعد أن كتب أكثر من 70 مسلسلاً للتلفزيون منذ العام 1975 من بينها (جرف الملح) و(الدواسر) و(فتاة في العشرين) و(أعماق الرغبة) و(ذئاب الليل) بجزئيه الأول والثاني، و(عالم الست وهيبة)، وهو العمل الذي حاز على الجائزة الذهبية الكبرى لمهرجان القاهرة عام 2000 وغيرها. وللإذاعة زهاء ألف نص وللمسرح ثلاثين مسرحية، منها مسرحيته الشهيرة (المحطة)، وللسينما خمسة أفلام طويلة منها (يوم آخر) الذي حاز على جائزتي النقاد السوفييت في مهرجان موسكو السينمائي الدولي عام 1979 ومجلس السلم العالمي عام 1979 أيضاً باعتباره (ذا موضوع حيوي يناقش قضية ذات بعد عالمي) كما جاء في ديباجة الجائزة. و(المسْ) رواية مهمة بكل مقاييس الرواية، أبرزها تصديها لمرحلة مهمة في تاريخنا المعاصر، من وجهة نظر المؤلف، ورغم ملاحظتي على وجهة النظر تلك لكني مؤمن أن (عيناي ليست عينيه وعيناه ليست عيني)، وبهذا أسقط فرضية النقاش بهذا الموضوع رغم أهمية ذلك، لكني أريد مناقشة موضوع آخر يحمل تساؤلا كبيرا للصديق صباح عطوان، محمولاً على كم هائل من العتاب عن أسباب إصدار حكم الإعدام على الرواية، بإطلاقه رصاصة رحمة عليها دون مبرر .. كيف؟ لقد حملت الرواية على غلافها الأخير كلمات طاردة للقارئ ذيلت باسم الناشر. وأنا أقول إنها كما يبدو من بنات أفكار الكاتب نفسه فهي تتشابه في الأسلوب مع ما جاءت به مقدمة الكاتب أولا، ولإيماني ثانياً، بأن الناشر، أي ناشر، غايته الربح وتسويق كمية أكبر من المطبوع الذي نشره وليس العكس. كلمات جعلت من نفسها معلما أو مرشدا للرواية، بدلا من أن تكون مفتاحاً لجدلية القراءة، فجاءت بإطناب لا مسوغ له للرواية، رغم كونها مبهرة فعلاً وتستطيع أن تتحدث عن نفسها بثقة، والتعكز على إملاءات الناشر، يأخذ من جرف الإبداع الذي جاءت به الرواية، فالقارئ بإحساسه المرهف سيقول إنها (دعاية من الناشر للرواية بهدف الاقتناء .. الخ)، فيما أن العمل يحمل جواز مرور عالي المستوى، يجعل القارئ يدخل ويتجول في دهاليز الرواية الجميلة دون مرشد، لاسيما أن المرشد كان هو (الناشر)، ثم هل سمعتم يوماً أن أماً (تفش خلقة) ابنها؟ بالتأكيد يكون الجواب لا، حيث أن المدح يكون ديدنها .. وهكذا هي الدنيا. تعالوا نقرأ ما جاء على الغلاف آنف الذكر، لتروا نوعية المدح الثقيل المقحم على الرواية، للحد الذي ربما يجعل القارئ ينفر من القراءة، وكدتُ أكون أنا هذا القارئ لولا معرفتي بالكاتب الصديق صباح عطوان، مدح يذكر بالإعلانات التي كانت تسبق عرض المسرحيات في ثلاثينيات القرن الماضي. تقول السطور تحت عنوان (هذه الرواية): (في (المس) تجد نفسك أمام حدث روائي غير عادي ألبتة .. فهي محكمة الصنعة، بالغة الروعة، متينة المستوى، قوية المحتوى، قل أن تقرأ مثلها في أدب هذه الأيام.. دبجها عن حقائق معاشة .. يراع أشهر كتاّب الدراما في العراق وعرابها المميز بلا منازع .. صباح عطوان. فمن خلال هذه الرواية تستشف أياماً، واعدة الظاهر، جامحة الباطن، مشرقة، جاهمة .. حادة التضاريس .. معبرة .. ناضجة .. فاضحة .. تجأر بما وراء الوجوه الإنسانية، في الدهاليز الخلفية للمجتمع العراقي خلال حقبة زمنية محددة من آلام وآثام .. ورؤى وتطلعات بأسلوب تحليلي متماسك علمي رصين .. بالغ الجرأة .. لا يليق إلا بكاتبه .. وبيان عربي مبين .. جزل دقيق .. يعبر عن رهافة حس ووعي عميق بالأشياء، ما يجعل من الرواية إحدى أسفار الحقيقة والتاريخ وشهادة جلية علية عن عصرها دون منازع، بما فيها وعليها .. وهي تسبر غورا، سحيقاً لتستكشف ما يجول بذات الإنسان من خفايا.. تجعلك تعيد ترتيب معايير الرؤية .. وتقيم أوزان أحكامك الأخلاقية والفكرية في إطار فهم جديد للأشياء). وتنتهي كلمة الناشر، وهي كما ترون سطور بلهاء مدعاة لخواء لا مبرر له ومدعاة لفخر هو موجود أصلا في الكاتب، إنها بمثابة نداء مظلم يجثم على فكر القارئ يمزق الرؤى الفكرية لديه، لكن هل تنتهي أسئلتي لصديقي الكاتب عن أسباب إطلاقه رصاصة الرحمة على عمل بديع .. بديع. هنا أدعو صديقي صباح عطوان إلى، سحب الرواية إن كان وزعها، من المكتبات وحذف كلمة الناشر النافرة، فالرواية وحدها تستطيع أن ترسم خطاها في واحة الإبداع، واسم الكاتب وحده يغني وتاريخه لا يزال يرفرف باعتداد في سماء الدراما والثقافة العراقية. أليس كذلك؟. وشكراً لالتفاتته الإنسانية التي أهدى فيها عمله الجزل إلى الصديق المشترك الزميل الراحل وائل العاني (أبو سلافة). إن ما أشرت إليه من ملاحظة، ينطبق على إصدارات أخرى يعتقد كتابها أن سطور المدح والمديح، هي صنو الإصدار وهذا خطأ قاتل. غير أن الأمر يكون مقبولا في الطبعات اللاحقة، حيث يمكن نشر الأصداء التي رافقت المطبوع. وعلينا أن نشابك أيادينا، كي نحضن الآتي في هدهدة الحلم وتجميع شظايا مرآة .. مكسورة .. ومعذرة صديق العمر.