مع شيوع كتابة النصوص النثرية في المشهد الثقافي العربي أصبح لزاماً على الدارسين بحث هذه الظاهرة، ودراسة الأساليب الفنية والجمالية التي تتميز بها أو التي ترتقي بها. إن توجه الشعراء العرب باتجاه النص الشعري النثري، لا بد أن يطور أنظمة جمالية تحل محل انضباط الشعر التقليدي، وما من شك في أن الإيقاع هو العنصر الهيكلي الرئيسي في كل الفنون، أكانت زمانية أم مكانية، وليست فنون اللغة بدعا من تلك الفنون . ليس الإيقاع عملية تكرار منتظمة لعنصر أو عناصر معينة على مدد متساوية من الزمان أو المكان، فهذا تبسيط مخل للتعريف، فالتكرار وحده لا يكون إيقاعا، تصور مثلا صوت تكات الساعة، إننا بالكاد ننتبه إليها، واعتيادنا عليها يجعل ادمغتنا لا تدخلها في تفسيرها للعالم المحيط بنا، على الرغم من إنها تكرار في غاية الانضباط لصوت واحد محدد. ومن ناحية أخرى يقود التكرار إلى تخيل سلسلة لا متناهية من التوقعات لأننا مع كل ضربة نتوقع الضربة التالية ونعرف موقعها بالضبط، وهذه السلسلة من التوقعات تؤدي بنا إلى تصور نظام لا متناه من الضربات ما يحملنا على تجاهل النظام بكامله. صحيح أن التكرار هو الركن الأساسي لبناء نظام إيقاعي لكنه وحده لا يبني ذلك النظام ، فالإيقاع يقوم على توقع المتلقي للتكرار التالي، وتلبية هذا التوقع بشرط أن تكون لهذه السلسلة من التوقعات نهاية واضحة، أي أن الفنان يقوم بتلبية توقع المتلقي لعدد من التكرارات ، وفي مرحلة أخرى يقوم بتخييب توقعه بإيراد عنصر غير العنصر المتوقع، وقد يكون هذا العنصر الجديد بداية لسلسلة أخرى من التوقعات والخيبة وهكذا. يمكننا أن نلمس هذا الفهم للإيقاع بوضوح في الموسيقى على أساس أنها الفن الأكثر تطلبا للإيقاع، وأكثرها وضوحا من هذه الناحية ، فكل قطعة موسيقية أو أغنية تتألف من مجموعة من التكرارات المتداخلة ، لكن هذه التكرارات كلها تتجه إلى النهاية حيث يقوم واضع اللحن بإدخال لازمة مختلفة تماما عن التكرارات السابقة مما يقود إلى إيقاف سلسلة التوقعات والإشعار بالنهاية. في الفنون التشكيلية يمكن أن نلاحظ سريان هذا الفهم أيضاً، لكن بشكل أقل وضوحا، إلا انه يكون واضحاً في فن التصميم ، يمكننا أن نشير مثلا إلى النقوش الموجودة على الألبسة النسائية، فالنقش على قطعة القماش يتكون من تكرار لا متناه لعناصره لكن مصمم الأزياء، لابد أن يضع نهاية لذلك التكرار والإشعار بالنهاية فيلجأ إلى وضع قماش من لون آخر أسفل الثوب أو يغير من اتجاه التكرار نفسه أو أية طريقة أخرى لإيقاف سلسلة التوقعات. في الشعر التقليدي العمودي يتم بناء الوزن الذي هو شكل من أشكال الإيقاع من تكرار الأصوات المتحركة والساكنة بنظام منضبط للغاية، ثم تأتي القافية بتركيب صوتي مختلف لكسر سلسلة التوقعات ، غير أن الشاعر التقليدي يواجه مشكلة فنية كبيرة في إنهاء قصيدته ، لأن القصيدة عمليا ستتألف من تكرار البيت الواحد تكراراً يحتمل اللاتناهي، ما يضطره إلى البحث عن طرق أخرى غير الوزن للإشعار بالنهاية، وغالباً ما يعتمد شاعر القريض على المعنى إذ يبني جملة تقول للقارئ (قف لقد انتهت القصيدة). أما شعر التفعيلة فقد أعطى الشاعر إمكانات جديدة كثيرة لإيقاف تدفق تكرارات الإيقاع، فبإمكانه أن يعتمد على القافية إذ يأتي بنظام تقفية لا يكون تكرارا للأنظمة السابقة. أو يمكنه الاعتماد على طول السطر إذ يأتي في نهاية قصيدته بسطر أو عدة أسطر تختلف أطوالها اختلافا بينا عما سبق، وغير ذلك. أما في النثر فإن الإيقاع نظام معقد، ولكنه موجود، والكاتب الذي لا يمتلك إحساساً بإيقاع كتابته، لا يمكن أن يكون كاتباً كبيراً. يعتمد إيقاع النثر على عدد من العناصر القابلة للتكرار، لعل أبرزها أطوال الجمل وعلامات الترقيم والطبيعة الخطابية للجمل من حيث كونها إثبات أو نفي أو استفهام. لكن لا يجب أن يغيب عن أذهاننا فكرة انتهاء التوقع السالفة الذكر. يعد الاعتماد على أطوال الجمل واحداً من أهم أساليب بناء الإيقاع في النثر، فضلا عن توظيفه لأداء بعض من جوانب المعنى. فمن التكنيكات الشائعة ذلك الذي يمكن أن نسميه تكنيك الإقفال، ويسمى بالإنكليزية (Capping) ويقوم على أن يأتي الكاتب بعدد من الجمل الطويلة نسبياً، ثم تأتي جملة واحدة قصيرة بشكل ملحوظ بالنسبة للجمل السابقة ، هذه الجملة طبعا ستشعر بانتهاء تكرار الطول ولذلك فهي غالبا نهاية أيضا للفقرة التي وضعت فيها، وإيذان ببدء سلسلة جديدة من التكرارات. ولعل كتاب النصوص النثرية ذات الطابع الشعري هم أكثر كتاب النثر حاجة للإيقاع ، فبتنازلهم عن الوزن التقليدي للشعر ، يكون عليهم إيجاد البدائل الجديرة باحتلال المكانة التي كان يشغلها الوزن، وقد نجحوا في تطوير عدد من التكنيكات المبتكرة في هذا السياق ، غير أن مشكلتها أنها غير موجودة مسبقا في ذهن القارئ مثلما كان حال الوزن ، ولذا فهي تتطلب قارئا أكثر قدرة على تلمس مكامن الإيقاع واكتشاف أسرار بنائه ، ولنأخذ مثلا (رسالة إلى أوروك) للشاعرة العراقية آمنة عبد العزيز: يحدثني بانا .. وأنا من بعده الأنا لا تكون .. يستعرض تاريخه وأسفاره .. ومحطاته المنهكة بالنساء .. والوجوه الخمرية والبيض والسمراء وأحاديث لا تفضي إلا إليه .. وصفحاته الخالية من الأسماء .. ورقم امرأة ... التقاها هنا .. وامرأة صادفها هناك.. يسترسل بتفتيت .. بنياني .. واصمت وبين دهشتي.. تراتيل أزمنتي .. غيابه يطفئ ذاكرتي الماضي وحاضره نار حروفي ..... أريد أن اعبر قلاع الشوق العاليات .. بلهفة امرأة العصور .. لا تستفز سباتي بعد ايقاظه .. قوافل حزني التائهة .. لا تدعها تظل دروب فرحك هزّ بيد حنانك مهد طفولتي ....... تدلّت ثمار نضوجي بزهو بين راحات القبل .. لا تعبث بطفولتي الخجلى إلا منك أوقف صراخي الأول إلا إليك .. ( ومثل فزة طفل روحي تفز لو سمعت بطرواك ) مرر براحتيك فوق ليلي .. سأطلعك على غابات الحناء .. وأين يكون ضوع عطري أدمنتك بين الحنايا قصيدة .. (وروحي حلاوة ليل محروكة حرك روحي) هناك في مملكتي نيسان .. تختبئ الضفائر بين القصب والبردي .. ورائحة المسك بين التنهدات .. وعطر ارض العنبر .. (ورد للناصرية ردود) ارجع الى مكان كان الهوى والعشق الازلي .. والشوق المقيد بتاريخ الجمر ( ورديت وجدامي تخط ) تخط اشتياق لا تقوى على حمله أجزائي ....... ( نهد حيلي بيك) ملاك اخطأ طريقه إلى الأرض .. نزل بيتك الآمن ساقية الروح قلقي والسراب المؤجل (وياحريمة انباكت الجلمات من فوك الشفايف) جفت الشفاه عطشى لذا الثغر المحرم .. نعم لعذابات انسها ولا لفراق وجفاء آمنه .. أنت شيفرة العمر فك بي رموزك .. إن التكنيك الأبرز الذي يمكن ملاحظته من النظرة الأولى هو توظيف الشاعرة الفضاء الطباعي وسيلة لبناء نظام إيقاعي مكاني ينتظم النص كاملا، فالأسطر الطويلة نسبيا ترد على إبعاد متساوية من بعضها ، بحيث تدركها العين من النظرة الأولى، لكنها تسرع هذا التكرار حين تصل نهاية نصها ليكون إشعاراً بالنهاية. مع ملاحظة وعي الشاعرة بتوظيف الإيقاع المكاني فنهاية السطر ليست بالضرورة نهاية الجملة أو موضعا لعلامة ترقيم إنما هي نهاية هندسية مكانية. في النص أيضاً تكرار مقاطع من أغنيات فولكلورية، وعددها ستة مقاطع وجميعها موزون بالعروض التقليدي فالثلاثة الأولى من الهزج ، والثلاثة الأخيرة من الرمل، هناك إذن إيقاع تكون من تكرار المقطع الفولكلوري وآخر تكون من تكرار الوزن العروضي للمقطع. ثمة تكنيك آخر ابتكرته الشاعرة هنا ، فمقاطع النص الواقعة بين كل مقطعين فولكلوريين يمثل كل منها وحدة موضوعية مستقلة وما أن يأتي المقطع الفولكلوري الآخر حتى يأتينا مقطع يدخلنا في وحدة موضوعية جديدة، والجميل هنا هو تكرار الاختلاف ، فبعد كل مقطع فولكلوري يتوقع القارئ انه سينتقل إلى معنى جديد وتلبي الشاعرة توقعه. وفي داخل كل مقطع تصنع الشاعرة إيقاعاً خاصاً، ففي المقطع الواقع بين (وروحي حلاوة ليل محروكة حرك روحي) و (ورد للناصرية أردود) يمكننا ملاحظة النظام الإيقاعي المكون من المعطوفات المفردة و (الواو) العاطفة، وفي أي مقطع آخر سنجد نظاما إيقاعياً ما ينتظمه.