يعيش اليمن حالة من الانتفاضة الشعبية لم يعرفها من قبل. وتعتبر هذه الانتفاضة قاطرة من سلسلة قاطرات الانتفاضات الشعبية التي عرفها الوطن العربي في كل من مصر والسودان والمغرب وتونس في بدايات عقد الثمانينات من القرن الماضي، إذ وجدت مجموعة هذه الدول نفسها منزلقة في أزمات اقتصادية واجتماعية شديدة الوطأة.. وكان في مقدمة هذه الأزمات، تزايد عجز موازين مدفوعاتها، وتراكم ضخم في ديونها الخارجية، وتفاقم عبء خدمتها وعدم قدرتها على الوفاء بعبء هذه الديون، وتدهور أسعار الصرف لعملاتها الوطنية، وتفاقم الغلاء فيها وزيادة طوابير البطالة..الخ ومنذ ذلك التاريخ رضخت تلك البلدان للمشروطية الصارمة التي تفرضها برامج التثبيت الهيكلية التي صممها صندوق النقد الدولي بشكل معمم على بلدان العالم الثالث.. وكانت نتائج تطبيق تلك البرامج في الحياة الاقتصادية والسياسية لتلك البلدان خطيرة، إذ تفاقمت حياة الجماهير الشعبية وزادت شقاء على شقاء تحت اندفاع التضخم وانخفاض دخولها الحقيقية.. ومن هنا كانت ثورات الخبز الشهيرة في كل من تونس ومصر والمغرب. ولا تخرج "ثورة الجياع" في اليمن عن هذا السياق الذي شهدته عدة بلدان عربية. إذ تصاعدت موجة الاحتجاجات في اليمن ضد القرارات الحكومية الأخيرة المتمثلة بزيادة أسعار المحروقات وبرفع الدعم عن المشتقات النفطية.. وشملت قرارات الحكومة اليمنية رفع سعر ليتر البنزين من 35 ريالا (32 سنتا أمريكيا) إلى 65 ريالا (60 سنتا) وسعر ليتر الديزل من 17 ريالا إلى 45 ريالا (من 16 سنتا إلى 42 سنتا). كما رفعت أسعار أسطوانات الغاز المنزلي من 205 ريالات إلى 400 ريال للأسطوانة الواحدة( من 112 سنتا إلى 215 سنتا). وقد بدأت "ثورة الجياع" هذه من العاصمة صنعاء، واتسعت لتشمل عدة محافظات يمنية أخرى كان أبرزها محافظات الحديدة وتعز وإب وصعدة وأبين والضالع ومأرب سقط فيها العديد من القتلى والجرحى. فلماذا إذن حدث ما حدث؟ إن هناك عددا من الأسباب، أهمها: 1- إن اليمن خضع لعملية رسملة حديثة، وبينما اغتنت طبقة التجار الوسطاء، وأمعنت في البذخ، كان اقتصاد الكفاف الريفي وشبه الريفي، والقبلي وشبه القبلي يتدمر.. وبينما كان الجيش وبلدان الخليج يمتصان فائض القوى العاملة في البادية والريف والمدن، أصبح الجيش غير قادر على استمرار امتصاص هذه القوى، بسبب الأزمة الاقتصادية، وعدم قدرة النظام على الاستمرار في زيادة عدد القوات المسلحة. كما أن النظام أخذ يعتمد في التجنيد على سكان المدن الكبرى والصغرى والقرى القريبة من المدن، لتلبية حاجة الجيش إلى التخصصات. كما أن الأسواق الخليجية لم تعد قادرة على استيعاب اليد العاملة اليمنية الكثيرة العدد منذ أزمة الخليج الثانية. 2-حين قاد الرئيس علي عبد الله صالح معركة توحيد الشطرين الشمالي والجنوبي لتحقيق الوحدة الاندماجية لليمن مع مطلع التسعينات، وتقوية دور الدولة في الحياتين السياسية والاقتصادية، اعتبرت الوحدة اليمنية-رغم ما تحمله من تناقضات وتعارضات الواقع اليمني-رافعة نهوض اقتصادي وسياسي مهمة، قوامها توظيف إمكانيات البلاد في الشمال والجنوب معا عبر زيادة صادرات النفط، وتوحيد رساميل المهاجرين اليمنيين الكبيرة، المتعلقين شديد التعلق ببلدهم، لتحقيق التكامل الاقتصادي والتطور الاقتصادي والسياسي لليمن، والخروج من بوتقة التخلف والتبعية. 3- إن المساعدات التي يحصل عليها اليمن، لم تعد كافية لسداد حاجاته في التوسع الإداري والاقتصادي والعسكري. ولقد جاء انخفاض عائدات النفط وتقلص المساعدات، وزيادة أسعار النفط الدولية، واستشراء النزعات الاستهلاكية لدى الطبقة السياسية الحاكمة، وزيادة السكان، تزيد من عمق الأزمة. ولما كان اليمن بلدا غير ذي إمكانيات، وكانت المساعدات العربية والأجنبية هي الأساس في بناء اقتصاده وجيشه، فإن نمو الدولة اليمنية المتزايد يحتاج إلى المزيد من المساعدات، وإلى تطور الإنتاج. ولكن الاقتصاد المبني على أساس التبعية للاقتصاد العالمي، والخاضع لشروط صندوق النقد الدولي لا يمكن أن يصبح قادرا على الوفاء بحاجات اليمن، خاصة إذا كان هذا البلد بلا إمكانات وبلا موارد. وفي مثل هذه الظروف، زاد تشديد الخناق من قبل صندوق النقد الدولي على الحكومة اليمنية، فخضعت لشروطه كاملة، وتبنت الجرعة الجديدة من الإصلاحات الاقتصادية والسعرية، المتعلقة برفع أسعار المشتقات النفطية. وتخلت الحكومة عن سياسة دعم أسعار المشتقات النفطية، بحجة أن بقاء الأسعار العالمية للنفط على هذا المنوال، واستمرار الاستهلاك المحلي على ما هو عليه الآن، سيجعل الحكومة تتحمل نحو مليار دولار لدعم المشتقات النفطية حتى عام 2006 على حساب برامج التنمية، وبالتالي سيرتفع عجز الموازنة إلى نسبة خطيرة جدا، حسب قول وكيل وزارة التخطيط والتعاون الدولي. إن انفجار الأزمة في اليمن، يطرح عمق الأزمة الاجتماعية، وعجز الاقتصاد القطري والدولة العاجزة عن حل المشاكل الاقتصادية. ومن الطبيعي ألا تتحدث الحكومة عن قبولها شروط المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، أو عن الفساد المستشري. *نقلا عن الخليج الإماراتية