بدأ اهتمام مايكل غيلسنان بحضر موت والشتات اليمني في جنوب شرق آسيا منذ عام 1959، وذلك عندما قدم إلى العمل كمدرس وهو في التاسعة عشر من عمره، في كلية عدن في المنطقة التي كانت تعرف باسم مستعمرة التاج عدن والمحميات، وقد جاء اليها وفق وصفه ك«أداة من أدوات الإمبراطورية الآفلة». ولاحظ غيلسنان أثناء عمله في الكلية مجموعة من الطلاب الحضارمة يتحدثون الاندونيسية أو المالاية، وغيرهما من لغات جنوب شرق آسيا، ولفت انتباهه أيضاً حنينهم الى العودة الى كوالالمبور واضواء سنغافورة بعيدا عن الحياة الجافة في عدن، كما لاحظ اختلافهم في ما يتعلق بالأطعمة التي يتناولونها وارتدائهم للإزار الشائع كزي عن سكان الملايو، بالإضافة إلى ملامحهم الآسيوية. ومن هنا بدأ اهتمامه بالهجرة الحضرمية إلى كل من ماليزياواندونيسياوسنغافورة، وزار تلك البلاد أكثر من مرة للتعرف على أوضاع الشتات العربي هناك، وجعلته التغيرات التي حدثت في حياة هذه المجموعة يضع وصف «عربي» بين قوسين، حيث يقول على سبيل المثال: زرت صديقاً «عربياً» في كوالالمبور. ظل العرب يسافرون إلى شرق آسيا منذ قرون. وقد استقروا بصورة أساسية في المناطق التي يطلق عليها حالياً اسم ماليزياوسنغافورةواندونيسيا. وعبارة «استقروا» لا تعتبر وصفاً دقيقاً للوضع، حيث كانوا يتنقلون من مدينة إلى أخرى ومن جزيرة إلى أخرى وفق ما لديهم من ارتباطات، وما تفرضه الأسواق، وتوزيع البضائع، والفرص المتاحة أو التوجيهات الصادرة عن الوالد رب الأسرة. وأغلبية هؤلاء العرب قدموا من منطقة حضرموت، في جنوب شرق اليمن، التي كانت حتى عام 1967 تحت الحكم البريطاني كجزء من محميات شرق عدن. والعديد منهم انتقل في البداية إلى الهند، حيث استقروا في الجنوب الغربي من البلاد او مقاطعة غوجورات، على سبيل المثال. وقال لي صديقي السنغافوري «العربي»: «كل أفراد أسرتنا لديهم ملامح هندية». وأطلعني على صور قديمة لهم. أما الآخرون فقد انتقلوا إلى مئات الجزر في أرخبيل الملايو، حاملين معهم رؤوس أموالهم وأزياءهم ومطبخهم الخاص وعاداتهم. اختلاط ومصاهرة وقد جاؤوا كبحارة وباعة جوالين. وتجار من كل نوع ومجال، مثل تجار الأقمشة والبهارات، كما جاء الدعاة والأساتذة، وفي بعض الأحيان جميع هذه الفئات المذكورة ضمن أسرة واحدة. والقليل منهم تزوجوا من أسر السلاطين المحليين وغيرهم من اسر النبلاء، خاصة إذا كانوا يحملون صفة «السادة» أي أنهم يتحدرون من آل الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم). وهناك بعض الأسر تروي قصصاً غريبة حول الظروف التي مرت بها مثل: غرق السفينة التي أتوا على متنها، أو استرقاقهم أو الاعتراف بهم وزواجهم من بنات أمير من الأمراء. غير أن معظمهم دخلوا في زيجات عادية، وفي بعض الأحيان تكون الزوجات من مجموعة أثنية مختلفة. وقد نتج ذلك لانتقالهم إلى منطقة أخرى للتجارة في مقاطعات كيداه وتيرنغانو، وباهانغ، وجوهور ورياو وسنغافورة. والى مدن باليمبانغ، واتشى وميدان وديلى، ولامبونغ في سومطرة. أو في ساحل جاوا الشمالي، حيث تجمع العرب فيما كان يعرف باسم باتافيا أي جاكرتا الحالية، وسيربون وبيكالونغان، وسيما رانغ، وسورابايا، كما ذهبوا بعيداً من ذلك إلى سولاويس وجزر مالوكو، وتيمور الشرقية. وقد احدث هذا الشتات والتوّزع تنوعاً في تركيبة الأسر وقراباتها. ولذا فإنني عادة ما أضع كلمة عربي بين قوسين أي «عربي» للتعبير عن ذلك التغير. وقد فعلت شبكة العلاقات الاجتماعية والتزاوج والتغيرات الديموغرافية فعلها. وباتت الأسر عند متابعة الأصول التي تنحدر منها تشير إلى أصولها من ناحية الأب كما من جانب الأم للوصول إلى الجانب العربي في الأصل. وقال لي صديق «نحن من آل العطاس ولكننا في الواقع ننتمي أكثر إلى السقاف لأننا نشأنا في اسرة والدتي». وكثيرا ما ينتقل العريس عادة للعيش مع أسرة الزوجة، وهذا أيضاً يعتبر نوعا من التغيّر في العادات بالنسبة لهم. أسماء ولغات مختلطة والبعض يختار أسماء جاوية أو ملاوية بدلاً من الأسماء العربية التقليدية مثل محمد بن أحمد بن حسين. وهو أمر يعتبر غريبا بالنسبة لسكان منطقة جنوب شرق آسيا الذين يستخدمون اسما واحدا من دون إلحاق «اسم العائلة» به. وعليه قد يتحوّل حامد إلى ويتو. كما أن مجموعة من الإخوة قد تختار تغيير أسمائها بينما يحتفظ الإخوة الآخرون بأسلوب التسمية العربية التقليدية. كما انتشرت ايضا الألقاب وإطلاق الأسماء المحببة، ونادرا ما يتم استخدام الأسماء الأصلية التي قد ينساها معظم الناس. وينشأ الأطفال وهم يتحدثون واحدة أو أكثر من اللغات العديدة السائدة في المنطقة، مثل المادوريسية أو السوندانيسية أو المينانغوكابو أو الجاوية (بل حتى إحدى اللهجات الصينية إذا كانت الأم ذات أصل صيني). وفي القرن العشرين كانت هنالك أيضاً اللغات الوطنية الجديدة: المالاي وباهاسا اندونيسيا. وقد تم استيعاب العديدين استيعابا كاملا. امرأة من «12 صلة دم» وساعد التصنيف الاستعماري الاثني للمجموعات المختلفة، بالإضافة إلى القيود المفروضة في ما يتعلق باللباس ومنطقة السكن وتجمع المهاجرين في منطقة واحدة، في خلق مجموعة مختلفة «عربية»، وحافظ على استمرارها، وذلك بالرغم من أن الواقع السائد كان يقوم على التزاوج المختلط. وتغيرت السحن واختلطت الدماء إلى الدرجة التي أطلعتني فيها امرأة اندونيسية مسنة على أصولها التي تنتمي إلى «12 صلة دم»، وكل صلة دم تظهر بوضوح، وفق روايتها، في سمة من سماتها الجسدية، مثل لون البشرة، ونوع الشعر، وشكل العين، وبنية الجسد ونحو ذلك. و«الشبه العربي» أو عدمه يشكل مصدر نقاش ويدور حوله الحديث الذي يجري بودّ ويتحول إلى حدة أحياناً. وسارت حياة المهاجرين بطريقة عادية تحت الحكم الاستعماري، حيث ظلوا يتعاملون مع السلطات القائمة مهما كانت. ولكن في وقت لاحق وإبان فترة النضال من اجل الاستقلال وما بعدها فإن هذا الآمر جعلهم أحياناً يدفعون الثمن. فقد ندد الوطنيون بمن عملوا مع البريطانيين والهولنديين ووصفوهم بأنهم أصدقاء المستعمرين وليسوا أندونيسيين أو سنغافوريين أو مالاي حقيقيين. وقد ارتبط العرب في الأذهان عامة بأنهم مرابون يعملون في مجال إقراض المال، وبامتلاك الأراضي والعقارات، وبعلاقاتهم مع الهولنديين في اندونيسيا، بيد ان بعض العرب استهتروا أيضاً بدورهم الوطني وهناك قلة منهم من الشيوعيين والإسلاميين الإصلاحيين المعادين للمستعمر. وإذا كانت النخبة قد اضطرت إلى تعلم اللغة الاندونيسية، بما أنها نشأت وهي تتحدث الهولندية وقد جعلها هذا الأمر في خلاف مع سوكارنو، بطل الحركة الوطنية الاندونيسية. ففي ماليزياوسنغافورة، حيث يشكل العرب أقلية ضئيلة، تختلف النظرة التاريخية النمطية، فهي أقل سلبية وأهمية. الشتات والإسلام وهناك خلاف كبير يدور حول درجة الدور الذي لعبه العرب في عملية أسلمة المنطقة ذات التاريخ الطويل المضطرب منذ أواخر القرن الثالث عشر. فالدارسون يرون أن المصدر هو جنوبالهند ولكن ينظر إلى العرب على أنهم حملوا معهم لغة القرآن، وأنهم أدوات نقل العقيدة الدينية ونصوصها. فقد أتوا من قلب عالم الإسلام، أي ما يطلق عليه الاندونيسيون عادة مركز العقيدة، مقارنة بوضعهم في تخومه أو أطرافه. ولكنهم بعد ذهابهم إلى ذلك المركز للحج غالباً ما يجدون التخوم أكثر تحضراً من المركز. والعديد من العرب في منطقة جنوب شرق آسيا عملوا في مجال الدعوة والتدريس. والعديد منهم مازالوا يقومون بذلك، ولكنهم يشكلون أقلية صغيرة ضمن الدائرة الأوسع من الأندونيسيين المتخصصين في الشؤون الدينية. وهم أيضا يحملون صفة حملهم للأصول، خاصة إذا ما كانوا قد تلقوا تأهيلهم في الأزهر بالقاهرة أو في مكة أو المدينة. وهنالك بعض المدارس الداخلية الدينية التي عادة ما تعرف بأنها أكثر محافظة ويقوم بالتدريب فيها أساتذة دين من أصول عربية. ويأتي الطلاب إلى هذه المدارس من جميع جزر الأرخبيل للدراسة تحت إشراف أستاذ مشهور. والرحيل إلى مصادر العلم يعد جزءا مهماً في تلك المرحلة من العمر. والعلاقات التي تقام في تلك المدارس غالبا ما تستمر لسنوات، وكذلك التوقير الذي يكنه الطلاب لشيخهم الذي تلقوا العلم على يديه. وتتوزع أضرحة الأولياء من المشايخ عبر الجزر. وهناك ضريح لوار باتانغ، على سبيل المثال، الذي يعود إلى الثلاثينات من القرن الثامن عشر، والذي يزوره الناس سنويا، كما تأتيه موجة يومية من الزوار الباحثين عن البركة والعون الإلهي. وفي الساحل في جاكرتا هنالك ضريح يتعرض لفيضان المياه. ويذكر الناس حكايته بأنه عند وفاة الولي برزت جزيرة من الرمل من باطن البحر، واتفق حملة نعشه على دفنه هناك، حيث اجتمعت وتمازجت العناصر في شكل عجائبي. وموقع لوار باتانغ حيث تتغير العناصر والحدود له بعد آخر فهو يضم ضريحين آخرين للسيد حسين العطاس ورفيقه عبدالقادر، وهو صيني اعتنق الإسلام ودفن إلى جواره. وقال السيد إن من لا يزور ضريح عبدالقادر، فإن زيارته لي كأنها لم تكن. والعديد من رجال الأعمال الصينيين يزورون ضريحه لجلب الحظ، وفق ما ذكره القائم على الضريح. وتناول احد الزوار مسألة إدارة المسجد وتوزيع الأموال، وعملية توسعة الضريح وبقية القضايا التقليدية اليومية. العلاقات العربية الصينية العلاقات العربية-الصينية غالبا ما كانت، بل وما زالت، على المستويين الشخصي والمهني، تقوم على التعاون. وذلك على الرغم من القول الشائع أن الانهيار الاقتصادي للعديد من الأسر العربية جاء نتيجة المنافسة الصينية، التي أخذت على سبيل المثال، موقعهم في مجال إنتاج الباتيك. وهذا التشابك المعقد للتواريخ والثقافات برز لي عندما عملت في التدريس لعام فيما كان يعرف بمستعمرة التاج عدن والمحميات، حيث ذهبت إلى حضر موت عام 1959، وعمري 19 عاماً كأداة من أدوات الإمبراطورية الآفلة، وقد دهشت ان أجد أن الطلاب في كلية عدن القادمين من حضر موت يتحدثون في ما بينهم بالاندونيسية والمالاية وغيرهما من لغات جنوب شرق آسيا، وأنهم كانوا يبدون ضيقهم لأنهم قابعون هنا، وليس في جاكرتا وسنغافورة يستمتعون بوقتهم، وأنهم كانوا يتناولون أطعمة تكثر فيها البهارات، وأنواع مختلفة من أطباق الأرز، ويرتدون الإزار و«يشبهون المالاي». وبعد مضي 40 عاماً من ذلك قررت العودة إلى مصدر ذلك المجتمع الذي كان مستعمراً، ولكن هذه المرة في آسيا، ماذا يعني أن تكون «عربياً»، أو «من أصل عربي» في عالم ذلك الأرخبيل المتعدد العراق والثقافات؟ وكيف تغيرت تلك المعاني والتواريخ والأسر بعد خمسة أو أربعة أجيال أو أكثر. ففي عام 1999 قضيت عاماً متنقلاً ما بين جاوة وسنغافورة، أعمل في الإعداد لبحث وتنقلت والتقيت ببعض الناس، وقد قدمني الأكاديميون في جاكرتا وسنغافورة بكرم إلى مجموعة واسعة من الناس، الأغلبية منهم بدت متحمسة وراغبة في الإجابة عن أسئلتي، وقد أبدى بعض الأكاديميين دهشة لأنني أولي اهتماماً كبيراً لهذا الموضوع، وتساءلوا في تهذيب لماذا يمضي شخص وقته في البحث عن هذا الموضوع بينما هناك مجالات تستحق الاهتمام أكثر، ويبدو ان الفهرس المحدود للمصادر التي تتناول موضوع العرب هناك، يؤكد هذا الأمر، والآخرون وبصفة خاصة المنحدرون من أصول السادة الدينيين، مشغولون في تتبع شجرة عوائلهم فقط. - المادة الأصلية نشرت بالانجليزية في مجلة (لندن ريفيو اوف بوكس) - الترجمة العربية لصحيفة القبس.