يخطئ من يعتقد أن عملية التحول من النظم الشمولية إلى النظم الديمقراطية ممكن أن تتم بكل سهولة ويسر، وأن هذه العملية ممكن أن تحدث بمجرد التغيير في مفردات الخطاب السياسي المحشو بمفردات النهج الديمقراطي، فالتحول الحقيقي في العملية الديمقراطية يرتبط بتغيير جذري في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، وهذا التغيير لن تقوم به إلا قيادات سياسية تتحلى بوعي المجتمع المدني بعيداً عن وعي المجتمع التقليدي، فالاختلافات بين النظم الشمولية والنظم الديمقراطية اختلافات جوهرية تصل أحياناً إلى درجة التصادم من حيث الأهداف النهائية التي توجه لخدمة المجتمع، ففي الأنظمة التقليدية التي تنظر إلى كرسي الحكم وكأنه ضمن أملاكها الخاصة يمنح الحكام فيها أنفسهم السلطات المطلقة دون الرجوع إلى المؤسسات، ويتم تعاملهم مع السواد الأعظم من جماهير الشعب بأسلوب القهر والظلم واحتكار الحقيقة، والأخطر من ذلك نجدهم يسعون دائماً إلى تقسيم المجتمع إلى درجات متفاوتة من المواطنة، إضافة إلى ذلك فهم أول من يقف في وجه المنادين لبناء دولة المؤسسات دولة النظام والقانون وأول من يدوس على القانون بل إنهم يعتبرون أنفسهم فوق النظام والقانون!! غير أن الأنظمة الديمقراطية التي تمثل في جوهرها نقيض الأنظمة الشمولية تماماً من خلالها يتم تداول السلطة سلمياً عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة، ومن خلالها أيضاً يتم مراعاة حقوق الإنسان، وفيها يتم تحويل الفساد المطلق للسلطة على فساد نسبي، إضافة إلى تعزيز حرية الصحافة.. وإعطاء دور أكبر لمؤسسات المجتمع المدني للمساهمة في صناعة القرارات السياسية ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. فالفجوة الكبيرة التي تعيشها الأنظمة التي أخذت تتعامل بالهامش الديمقراطي بين التشدق بالشعارات لديمقراطية من ناحية، وبين الممارسة الشمولية من ناحية أخرى جعلت من الهامش الديمقراطي لهذه الأنظمة مجرد أكذوبة كبيرة تمارسها على شعبها باسم الديمقراطية المزيفة أو (ديمقراطية المراوغة)، وقد كان أبلغ تعبير لهذا الشكل من الديمقراطية المزيفة أو (ديمقراطية المراوغة) ما قاله "إيان مارتن"، السكرتير العام لمنظمة العفو الدولية سابقاً: "إن الدفاع عن حقوق الإنسان سيكون دفاعاً صعباً في ظل ظروف أكثر تعقيداً" يسميها ظروف (المراوغة الديمقراطية)، وأضاف: "لئن كانت الدكتاتورية صريحة في انتهاك لحقوق الإنسان، فإن الأمر يختلف إذا ما انتهكت الحقوق في ظل وجود أنظمة ديمقراطية من الناحية الرسمية، فالديمقراطيون درجات من الدكتاتورية، البعض منهم قد يراوغ إلى إفراغ الديمقراطية من أي مضمون وإبقائها صورة شكلية للنظام السياسي، فقد توجد الانتخابات لكنها قد تزور، وقد توجد القوانين الديمقراطية لكنها لا تطبق، حيث تطبق بدلاً عنها أعراف الاستبداد، وقد توجد المعارضة في البرلمان على المقاعد القليلة، كما قد توجد في التلفزة لبعض دقائق والمحاكمات قد تكون عادلة، لكنها بطيئة حيث إن العدالة البطيئة نوع من أنواع الظلم؛ بل إن السجن نفسه قد يستعاض عنه بمختلف صور التشريد والعرقلة والاضطهاد مع احتفاظ المسجون بحريته النظرية". هذا التحليل الدقيق والموضوعي من قبل "إيان مارتن" للبلدان التي تتعامل مع هامش الديمقراطية بطريقة المراوغة ينطبق تماماً مع تجربتنا الهامشية للنهج الديمقراطي، وكأن مارتن أستند في تحليله إلى التجربة اليمنية. والمفارقة (الصدمة) أن من يتغنون بهامشنا الديمقراطي ليل نهار هم أيضاً يسعون اليوم إلى الأخذ بنموذج "الجمهوريات الوراثية" الذي ابتدعته لنا الأنظمة الشمولية في وطننا العربي!!.