لم تحظ هجرة من الهجرات الانسانية بقدر من الاهتمام من قبل مثلما حظيت به الهجرات اليمنية القديمة، خاصة وأن اليمن -حسب المهتمين- بدراسة تاريخ المجتمعات الانسانية القديمة مهد لانطلاق أول وأكبر الهجرات التي عرفتها البشرية. في المتحف الوطني بصنعاء يروى مجموعة من البحارة اليمنيين القدامى عبر سلسلة من 14 فيلما تصويريا تاريخيا ضمن معرض (آخر رجال القاموس) الذي افتتح ابوابه اليوم ويستمر حتى 12 فبراير القادم، حكايات مثخنة بالذكريات حول وأحدة من أقدم الهجرات اليمنية القديمة التي باتت تشكل اليوم أحد اقدم المجتمعات العربية المسلمة في بريطانيا، قبل أن تنطلق من اليمن صوب أوروبا عبر البحر وتستوطن مدينة "ساوث شيلدز" الصغيرة الواقعة على ضفاف نهر التاين شمال شرق انجلترا. المعرض في جوهرة يختزل الصلة العميقة بين الشرق والغرب، وحقيقة الاندماج الناجح لمجتمع الجالية اليمنية في الوطن الجديد، وكيف أنهم اضحوا جزءا مهما من الهوية بكل مكوناتها وتعقيداتها . كما يعكس المعرض جملة من المفاهيم والقيم والرسائل التي حملها المهاجرون اليمنيين معهم من الوطن الام إلى بلاد المهجر من خلال تفاعلهم وتعاطيهم مع مفردات الحياة وانماطها المختلفة، أهمها التكيف والمحبة والسلام والقدرة على التعايش مع مختلف شعوب العالم . بيد أن أهم ما يميز القصص الانسانية التي يسجلها أخر رجالات القاموس وراحوا يسردونها في المعرض عبر وسائل تقنية تعتمد على حاسة السمع والنظر والتأمل من خلال اجهزة التسجيل والشاشات التلفزيونية جاءت لتعزز حقيقة قدرة الانسان اليمني على التعايش مع المجتمعات الانسانية في ارجاء المعمورة بمختلف عاداتها وتقاليدها . وزير الثقافة الدكتور ابو بكر المفلحي أكد في كلمته بالافتتاح على أهمية هذه الحقيقة ..لافتا إلى أن هجرات اليمنيين الكثيرة عبر مراحل التاريخ الانساني التي قصدت مختلف اصقاع الارض بداية من اندونيسيا جنوبا مرورا بالصين والفلبين واوروبا وانتهاء بامريكا غربا. وأكد أن هذه الهجرات التي انطلقت من اليمن حامله لمشاعل العلم والمعرفة والبحث عن اسباب ووسائل العيش الكريم الكثيرة تختزل في مضمونها سنوات طويلة من الكد والكفاح والعمل الجاد امتزجت بالعرق والدموع ، واختلط فيها النجاح بالفشل والانكسار بالتحدي والانزواء بالانفتاح على الاخر". مع آخر رجال القاموس من البحارة اليمنيين الذين ما يزالون على قيد الحياة وهم يمثلون الجيل الاول للمستوطنين اليمنيين في ساوث شيلدز تتجلى الفكرة الاساسية من اقامة المعرض الذي يرعاه المجلس الثقافي البريطاني والمتحف الوطني في كونه يبرز الدور المهم لابناء هذه الجالية في مكون التراث البحري والصناعي العريق لشمال شرق انجلترا الآخذ في الاندثار من المشهد الحديث. وعلى ضفاف النهر التاين يبرز المعرض عبر مجموعة من الصور الفوتوغرافية والأفلام التسجيلية لروايات شخصيات القاموس والافلام التصويرية التاريخية كيف أشتغل هؤلاء لاكثر من 100 عام على متن السفن التجارية واستقر جزء منهم في مدينة ساوث شيلدز الصغيرة وجعلوها موطنا لهم وساهموا في بناء حضارات إنسانية منيفه. تعود فكرة مشروع اخر رجالات القاموس وفق ما اشار السفير البريطاني بصنعاء تيم تورلو في كلمته إلى ما قبل عده سنوات عندما شرعت المخرجة تيانا غرافي في رحلة الكشف عن الارث الذي خلفته هذه الجالية في المجتمع الانجليزي قبل ان تكتشف اسهاماتها في جعل مدينة ساوث مركزا مزهرا لصناعة السفن. كما اشار إلى مراحل حياة هذه الجالية وقال " لم تجد هذه الجالية العيش أمرا سهلا في كل الاحوال بهذه المدينة حيث كانت ايامهم الاولى تفوح برائحة الغربة عزاب بعيدا عن الاهل وفي ظل ظروف وثقافة ومعتقدات غريبة وفق السفير. ونوه إلى أن هذه العمالة الوافدة عانت لفترات طويلة من الزمن من الاستغلال من أرباب العمل قبل أن تنتفض وتقوم وتحتج في ثلاثينيات القرن الماضي على الوضع، وهي المرحلة التي شكلت نقطة التحول الرئيسية على طريق تأكيد دورها وتصيحيح مسار العلاقات بينهم وبين ابناء المجتمع الجديد القائمة على الانسجام والتفاهم. وأكد السفير في كلمته بحضور لفيف من الدبلوماسيين والمهتمين والمثقفين أن الجالية اليمنية حافظت على هويتها الثقافية والاجتماعية في نفس الوقت الذي تمكنت فيه من الانماج والانخراط في المجتمعات المحلية بشكل كامل . ومثلما كان المعرض حافلا بالصور والروايات والقصص الانسانية الرائعة التي سجلها اليمنيون عبر هجراتهم إلى مختلف انحاء العالم فقد كان ايضا حافلا بكل ما يعبر عن أهميته في تسجيل محطة مهمة من المحطات الكثيرة التي نزل فيها المهاجر اليمني تاركا بصماته في كل زاوية وركن. سبا