يبدو أنه مضى ذلك الوقت الذي كانت تُشكل فيه النخب بوصلة لتسييس الدول والشعوب بحيث يقاس من خلال أدائها أداء الدولة والمجتمع . لقد كانت النخب إلى وقت ليس ببعيد تمثل القدوة بصرف النظر إن كانت قدوة حسنة أم سيئة ، ولكنها على كل حال كانت قدوة يتأسى بها المواطنون أو الرعية ، وهذه النخب تختلف باختلاف المجتمعات أو القيم السكانية فإن كانوا مجتمعاً مدنياً كان للمثقفين الدور الطليعي وإن كانوا مجتمعاً متديناً كان للعلماء الحظوة ، وإن كانوا (قبائل) كان للشيخ الدور الأساس ، وإن كانوا (عسكر) كان الأفندم قدوتهم – وعلى حد تعبير صديق – كان الرئيس صالح في ثمانينات القرن الماضي قدوة العسكر في اليمن الشمالي فإذا حلق "صلعة" حلقوا كلهم ، وإذا لبس بيادة لبسوا كلهم وإذا لبس نظارة سوداء فعلوا كلهم ، وإذا طّلق "مرته" طلقوا نسوانهم وإذا تزوج تزوجوا ، طبعاً مع الفارق على حد تعبير صديقي خفيف الظل ، فالبيادة الرئاسية ليست كتلك التي يحظى بها العسكري العادي وحتى المطلقة أو الزوجة الجديدة ليست كنساء بقية العسكر .. وأضاف ضاحكاً حتى الصلعة حقه ثاني !! . واليوم يقال أن الأفندم يقبع في إحدى المستشفيات في الرياض وهو الذي لطالما قتل القتيل ومشى بجنازته و"ياما" فعلها ، وزارهم إلى المستشفى قبل أن ينتقلوا إلى الرفيق الأعلى كما فعل مع شهيد الصحافة عبد الله سعد . تلك الأيام نداولها بين الناس .. واللهم لاشماتة ، ولكن لماذا الزيارة ممنوعة على الأفندم هل حتى هذه أراد الله أن يعاقبه بها ؟!. أم أن وراء الأكمة ماوراءها ؟! .. هذا الموضوع المثير للجدل سبق وأن طرقناه ولا نريد ان نكثر الطرق .. فكلنا في الهم شرق . وعَود على بدء .. فإنه بالفعل تبدو النخب عاطلة عن العمل هذه الأيام مع قيام الثورة بسواعد الشباب والجياع والأيتام والأرامل .. الذين كانوا ولا يزالون ضحية تلك النخب العنيدة في إمعانها البراجماتي المقيت . لاشك بأننا نتذكر بأن الخروج إلى الشارع بالنسبة لهم كان خطاً أحمراً ، وجاءت اللحظة التاريخية التي بدأت بصفعة البوعزيزي ولم تنته عند صفعة الأحمر ، وانفرط عقد خطوطهم الحمراء ، وأمسك الشعب بقراره عندما عرف الطريق التي ضلها ردحاً من الزمن وهو يستجدي من الحكومة نظاماً وقانوناً ومن المعارضة صوتاً معبراً حقيقياً عن معاناته التليدة التي تعاظمت لتتحول إلى جحيم مستعر . اليوم نستطيع القول بأن النظام سقط ولكن لم تسقط بعد رموزه كافة فلاتزال النخب الضعيفة والمرتهنة تجرّب حظها في استعمال كافة الحيل التي يسمونها جهودا سياسية للإبقاء على بقية تلك الرموز التي يمكن أن تضمن لهم فتاتاً اعتادوا عليه ويخشون خسرانه المبين . يعرفون جيداً بأنهم باتوا عاطلين عن العمل بمعنى أن لا تأثير لهم ولا قدرة ومايقومون به مجرد أدوار شكلية يضحك الخارج بها عليهم وليس العكس ، ومع ذلك وكما يقال : الغريق يتمسك بقشة . ولكن القشة التي قصمت ظهر (الحمير) هي ذلك الشعار الذي يرفعه الشعب اليوم وتتبناه الثورة الشبابية ( الشعب يريد مجلس انتقالي ) . إن من تابع يوميات الثورة الشبابية اليمنية التي أعرب كثيرون عن إعجابهم بها من مختلف أنحاء العالم ليدرك جيداً بأنها لم تحمل في طياتها طابعاً عدائياً وانتقامياً على الإطلاق ، بل إن تسامح الثورة بلغ مبلغاً لايعرفه إلا الراسخون في العلم من الأنبياء والصديقين والأولياء والصالحين ، وهو الأمر الذي حيّر العقول وأدهش الناس جميعاً . حتى إن تعاطي الثوار مع حادث الاغتيال الذي نسمع عنه ولم نره للرئيس صالح وكبار مساعديه كان في منتهى التسامح والإيمان والرقي ، وهو حادث يذكرني بمقولة عربية معروفة تقول : ( أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ) وهي تعبير ودلالة على انك لو رأيته ستشكل رؤيته صدمة لك .. السماع هنا له رنة ، ولكن البصر قد يُفقد الرنة بريقها إن لم يأت عليها كلياً . أحسب أن هذه النخب وفي مقدمها مايسمى لقاء مشترك هي من تروج لمقولة ان اليمنيين يريدون الانتقام في المستقبل من الجميع وأنهم لا يريدون مجلس انتقالي بل انتقامي .. ينتقم منهم ومن النظام ورموزه ومن السعودية ومن سواهم من المتآمرين .. وعلى ذلك يحاولون وباقتناص عدد من الشواهد العرضية على تثبيت ذلك لتصوير شعبنا على أنه شعب انتقامي ، بالرغم من أن محاكمة النظام هي فعل قانوني صرف والقانون لا ينتقم بل ينتصر .. لايحمل حقداً بل يحمي حقاً وهذا الحق إلهياً قبل أن يكون إنسانياً وعليه لا يمكن لأحد مصادرته . يوميات الثورة أثبتت بأن الشباب أدركوا القيمة السياسية الكاملة لسلمية ثورتهم وارتقائها الوجداني العظيم ، وإلا لما كانوا قد تسامحوا مع الفرقة الأولى مدرع وقالوا لها أهلا وسهلا بإعلان الانضمام مع أن علامات الاستفهام والتعجب تملأ الأرض والسماء لاسيما لجهة ملاحظة دور قائدها في الحرب على الجنوب وصعدة ، لا بل إن ممارسات الفرقة على الأرض أبانت حقيقة الأمر ولازالت الثورة تقول بأنها تجبّ ما قبلها ، الأمر ذاته حدث مع ممارسات حزب الإصلاح المقززة والتي تنتمي إلى عصر محاكم التفتيش البائدة ، ولايزال الشباب يتسامحون ويقولون : الثورة تجبّ حتى ما بعد القبل وقبل البعد . إذاً .. لماذا لا نستشعر الأمان بكلمة سواء ، ويدرك الجميع اليوم مالم يدركونه من قبل ويستجيبون لمطلب الشارع "الشعب يريد مجلس انتقالي " ..؟ فما دون ذلك ، هو أن مالم ولن يدركونه بالشرعية الدستورية "الخرقاء" سندركه بالشرعية الثورية المؤكدة –وعامل الوقت هنا ليس في مصلحتهم هم لا الثوار – وهذه الشرعية الثورية المبدئية ستمضي بنا إلى عقد اجتماعي جديد أي إلى الشرعية الدستورية الحقّة عبر مجلس انتقالي لا (انتقامي) وبرافعة قوامها جميع مكونات التغيير ممن يشكلون الطيف السياسي نحو مستقبل رائد لهذه الأمة العظيمة شاء من شاء وأبى من أبى . [email protected]