منذ لحظة جلاء الاستعمار الغربي عن الأقطار العربية منتصف القرن العشرين بعد حروب وتضحيات فدائية جمة راح ضحيتها الملايين واستمرت لعقود من الزمن، لم يتوانَ الاستعمار عن تطوير أساليبه لإعادة الكرَّة نحو البلدان العربية التي يسيل لعابه عليها دائماً، ويسعى للسيطرة عليها بكل الوسائل، ولهذا لم يغب عن المشهد العربي لحظة، وكان متواجداً بكل مراحل العمل العربي منذ لحظة جلائه وحتى اليوم. لكن هذا التواجد اختلف من دولة إلى دولة، واتخذ أقنعة عدة، لكنها بمجملها تصب في خدمته وتمهد الطريق لعودته أقوى من ذي قبل. ولم يكتفِ الاستعمار الغربي، وهو يسعى جاهداً لعودته، بإشعال الحروب والفتن بين وداخل الأقطار العربية لتسهيل مهمة عودته، بل راح يعتمد على أعداء العرب التاريخيين وبتنسيق أضحى واضحاً للعيان، وفي تقاسم لا يخفى على أحد، وهو يثير شهوة التسلط لدى الأتراك والفُرس لتقاسم ثروة الوطن العربي وموقعه الاستراتيجي، وليخفف النقمة عليه. فإذا بإيران وتركيا تتوغلان في العمق العربي بشكل لم نعهده منذ قرون، وأصبحت أياديهم تضرب في كل مكان على امتداد الخارطة العربية. وفوق هذا وذاك أصبح لكل منهم أياديه العربية المرتزقة التي تفتت النسيج العربي من داخله خدمةً لمن يدفع. وفي حين ظل الاستعمار الغربي في القرون الماضية يدفع ثمن سيطرته على الأقطار العربية مئات الآلاف من أبنائه المقاتلين الذين لقوا حتفهم على يد أبطال المقاومة والتحرير العرب، فقد أخذ الاستعمار الحديث تلك الخسائر البشرية بالحسبان، وجعلها في مقدمة أولوياته، وبالتالي بحث عن حلول ناجعة للسيطرة على منابع الثروات العربية وبسط نفوذه على المواقع الاستراتيجية، ورفد الاقتصاد الغربي ببيع الأسلحة من خلال إيجاد سوق رائج لها عبر تفجير الحروب المتوالية في المنطقة العربية، دون أن يخسر جندياً واحدا. ليصدق فيه المثل القائل: داخل في الربح خارج من الخسارة. وهو ما تجلى واضحاً في الحرب على اليمن التي تفجرت من خلال العدوان السعودي الإماراتي على اليمن وبتحالف عدد من الدول العربية ورعاية أمريكية بريطانية وتدخل إيراني واضح. وبموجب ذلك عادت بريطانيا وأمريكا لتضع يدها على منابع النفط وتسلبنا حريتنا واستقلالنا بعد أن أصبح الجو والبحر والسواحل تحت سيطرتها المطلقة، ولم يعد يسافر اليمني براً أو بحراً أو جواً إلا بإذن مسبق من التحالف العربي الذي هو في الحقيقة يد بريطانيا وأمريكا وأداتها لبسط سيطرتها على المنطقة دون أن تخسر جندياً واحداً كما أسلفنا. علاوة على أنها بهذه الحرب قد تمكنت من إيجاد سوق بيع سلاح منقطع النظير، كون الحرب تفجرت في أغنى بلدان المنطقة والعالم، وبالتالي فقد كان تدخل السعودية والإمارات ومن معهما في العدوان على اليمن وتحت يافطة دعم الشرعية، وبإيعاز من دول الاستعمار، هو الصورة الحقيقية والناصعة للاستعمار الحديث الذي عاد للسيطرة على الوطن العربي أقوى من ذي قبل، ودون أن يتصادم مباشرةً مع العرب، أو يظهر في الواجهة. ففي اليمن لا تظهر سوى السعودية والإمارات، وفي سوريا تظهر إيران بقوة من خلال مليشيات حزب الله اللبناني والدعم الإعلامي، ومثلها في العراق، فيما ليبيا تتجلى فيها التدخلات الإماراتية والتركية، والسودان مازال يراوح بين التدخل السعودي والإماراتي، ومن خلف الجميع تقف بريطانيا وأمريكا لتحريك قطع الشطرنج. ولعلنا لا نغفل في هذا المقام، نقطة هامة اعتمد عليها الاستعمار الحديث، وكانت أحد الركائز القوية التي ضمنت له العودة دون خسائر، ومهدت له الطريق وعبدته من أجل السير براحة تامة دون مواجهة أي وعورة. وتم ذلك من خلال منظمات المجتمع المدني التي جاءت دخيلة على الوطن العربي وأُنشِئتْ بدعم غربي، ولاتزال، ويتم تمويلها كما نعلم جميعاً من خلال الدول الغربية وسفاراتها في مختلف العالم، ومهمتها الحقيقية تتمثل في رفع بيانات متكاملة عن كل القطاعات العربية، حكومية أو مدنية، وعكس الصورة الحقيقية لما هو عليه المجتمع العربي، ومعرفة نقاط الضعف وأماكن الخلل ومواطن الخلاف، لتغذية الشقاق وتوسيع الشقة بين الفرقاء السياسيين أو المذهبيين أو المناطقيين، وبالتالي يصبح الجميع لقمة سائغة يسهل ابتلاعها. والمدقق في وضع رؤساء المنظمات المدنية التي انتشرت بشكل مذهل وأصبح عددها بعشرات الآلاف، يجد أنها لم تقدم للمجتمع أي خدمة تذكر، وإنما ظهر الغنى على رؤسائها واغتنوا بين عشيةٍ وضحاها، وكل ذلك مقابل تفتييت الجسد العربي من الداخل عبر التضجيج باسم حقوق الإنسان وغيره، وتوسيع رقعة الخلافات وتسهيل نهش الدولة وإسقاط الأنظمة العربية التي تهاوت سريعاً بفضل الأعمال المأجورة لتلك المنظمات، التي هي بحق ذراع الاستعمار الحديث دون منازع، واليد الطولى التي تمكن من خلالها من التدخل في كل صغيرة وكبيرة ورصد كل شاردة وواردة في الوطن العربي ودول العالم الثالث.