كانت تتسرب ليلا لتكتب رسائل إلى الله.. وحين تلمح في أصواتهم نبرة ساخرة تتمادى قائلة «سوف يرد الله على رسالتي بعد أسبوعين». وبينما يتباهى الناس برؤية الرسول «ص» في المنام مرة في حياتهم، فإنها رأته عدة مرات. كانت حميدة في نهاية ساعات عملها بالمستشفى حين التقطت أذنيها حوار الإذاعة المصرية مع البطل الفدائي «محمد مهران» الذي قاوم تعذيب الإنجليز لإجباره على الاعتراف على زملائه الفدائيين. وصل العناد بالطرفين لنهايته. هدد الإنجليز مهران باقتلاع عينيه إن لم يعترف. وهدد مهران الإنجليز بأن بمصر ملايين مثله وأن عيون أهل مصر ستكون عيونه. نُقل الشاب البورسعيدي إلى قبرص في عام 1956 وهناك اقتلع الإنجليز عينيه لترقيع قرنية ضابط إنجليزي أصيب في عينيه؛ ليبصر الأخير ويفقد مهران عينيه للأبد ويعاد إلى مصر فاقد البصر ومصابا في كل رقعة في جسده. اختطفت المخابرات المصرية مهران من المعسكر الإنجليزي ونُقل إلى مستشفى العجوزة العسكري بالقاهرة. هناك يزوره جمال عبدالناصر وكبار القيادات المصرية ويفتح الإعلام ملفه الشهير الذي شغل مصر عدة أعوام بعد ذلك. حين استمعت «حميدة» لما رواه مهران في البرنامج الإذاعي، خلعت رداء التمريض وحيَّتْ مرضاها بالمستشفى وزميلاتها وعادت إلى منزلها مهرولة لتكتب خطابها الأول إلى الرئيس جمال عبدالناصر تبلغه برغبتها في التبرع بإحدى عينيها للبطل محمد مهران. في كراستها الثانية خطت خطابها إلى الله تسأله المساعدة في تحقيق حلمها. نقلت رئاسة الجمهورية الخطاب إلى «مهران» وإلى إدارة المستشفى. بعث مهران إليها برساله شكر وتقدير على نبل مقصدها ولكنه لم يرد على طلبها بالتبرع. وحين تأخر الرد، بعثت برسالة إلى وزير الصحة، ثم إلى مدير المستشفى، ثم إلى الصحف المصرية.. ثم إلى مهران ذاته تحثه بلغة جادة وإصرار على قبول إحدى عينيها. لم تكن «حميدة حسن إسماعيل» سوى فتاة مصرية من أسرة طيبة تقيم في بورسعيد التحقت كما الآلاف من الفتيات بمدرسة التمريض. فقد كان التمريض في ذلك الحين إحدى سبل مقاومة المحتل. وكانت مدن القناة عامرة بفئتين: الفدائيين أمثال مهران، والمتطوعين نساءً ورجالاً من الفرق الطبية لإسعاف المصابين من الفدائيين. حين استمعت إلى البرنامج الإذاعي صار مهران هو «مصر». ورأت أن من حقها مساعدة مصر. تأكد الجميع أن مبادرة «حميدة إسماعيل» ليست اندفاعة مؤقتة ولا انفعالا عاطفيا طارئا، فالآنسة الفاضلة التي لم يسبق لها التعرف على مهران يتزايد إلحاحها بالتبرع مع مرور الأيام. وبعد ستة أشهر كانت على باب غرفته بالمستشفى العسكري تقدم نفسها إليه وتلح مجددا في قبول عرضها بالتبرع. أكد الوفد الطبي الروسي والألماني ما سبق أن أكده الجهاز الطبي المصري... لم يقتلع الإنجليز القرنية فقط بل إنهم أجهزوا أيضاً على أعصاب عينيه إمعانا في الإيذاء والقسوة. ليس هناك أمل أمام مهران للإبصار مرة أخرى. لم يكن «مهران» هو مُخرج السيناريو المحكم الذي جرى لدى زيارة حميدة، بل طبيبه وأبوه الروحي. استقبلها مهران كالمعتاد بنفس الهدوء والأدب الجم. بادرته هي بنقل أخبار مصر وعرض كل ما أتت به الجرائد والمجلات. قاطعها قائلا: أنسة حميدة.. هل أنت مخطوبة؟ رأى ابتسامتها رغم الظلام وأجابت «لا».. تمادى في السيناريو وعاد إلى الأحداث العامة وتحليل الأخبار ثم قاطعها مرة أخرى سائلا: آنسة حميدة.. هل أنت مرتبطة؟ بنفس الابتسامة ردت: «لا».. عاد يستكمل الحوار بقوة أكبر ثم بعد عشر دقائق قاطعها مجددا قائلا: لن تنجح عملية نقل إحدى عينيك إليً؛ فقد دمروا العصب.. لكن أيمكن أن أطلب منك الأغلى؟ أيمكن أن أسالك كلتا عينيك وأعيش في ظلهما؟ بعد ثلاثين عاما اعترفت إلى ابنتها الطبيبة د.أميمة مهران أنها كانت قد كتبت إلى الله خطابا بشأن مهران وطلبت إليه أن يعينها على مقاومة الإنجليز. وذكرت في الخطاب «يا الله ابعث لي آية منك قريبا». في الأسبوع التالي سمعت حميدة البرنامج الإذاعي وعرفت أن رد الله قد وصل. لذلك كانت تلح في التبرع. كان مهران هو سبيلها لمقاومة الإنجليز، وسبيلها لنصرة مصر. حين تخرجت ابنتها الصغرى في كلية الفنون الجميلة مهندسة نابهة جميلة، طلبت منها الأم أن تقف أمام أبيها ليرى ملابس التخرج الأنيقة ويتلمس شعرها الأملس ويفخر بابنته المهندسة، فقد عينيه لكنه لم يفقد أي لحظة دافئة من لحظات الحياة. كان أول من يلمس شهادة التخرج. وأول من احتضن شهادة ميلاد حفيده الأكبر. وكان أول من طرق الباب على منزل ابنته صباح زفافها. ترى د.أميمة أن أمها أحبت مصر في أبيها، فكان حبها ساميا شفافا.. حبا كاد أن يشق حجب السماء. تقول إنها حين بكت عندما ظلم السادات أبيها وأحاله للتقاعد من عمله كمدير للمتحف الحربي وهو المنصب الذي عينه فيه جمال عبدالناصر. جاء إليها الرسول «ص» في المنام مبتسما سائلا إياها أن تمسح دموعها. فاستيقظت تملأ الدنيا فرحا. ونصرها الله وعاد زوجها للعمل. وحين حملت ابنتها أخبرتها بجنس الجنين في شهرها الثاني. وقبل أن يعلم زوجها أنه نال الحج، كان الله قد بعث إليها في منامها أن زوجها في الطريق إلى الكعبة يقطع البحر سفرا. بعد أسبوع من وفاتها اندلعت ثورة مصر في 25 يناير. ووجدت ابنتها في كراسة رسائلها إلى الله، رسالة تشكو إليه من حال مصر وظلم حكمها وتسأله التدخل وتغيير الأحوال. وكعادتها أنهت خطابها قائلة «أعلم يا الله أنك سترد عليّ بعد أسبوعين».. كانت في رحابه ساعتها لكنه تعالى استجاب. والآن وقبل أيام من ذكرى وفاتها الأولى تكتب إليها» رفيده» حفيدتها الشابة المدرسة الذكية تخبرها أن الثورة قامت وأنها ما تزال حية. صحيفة العرب القطرية