لعل أسوأ ما واجهته الأمة العربية والإسلامية وما تزال في تاريخها وواقعها هو ذلك التناقض الصارخ والفجوة العميقة التي تتسع كل يوم بين ما يجب أن يكون عليه حالها وبين ما هو كائن فعلاً في واقعها! .. وهذا ما يبدو واضحاً في مواقف وتصرفات أغنياء الأمة وأثريائها الذين حباهم الله نعمة المال ليشكروا الله عليها كثيراً ويحمدونه على ما أسبغ عليهم من جزيل نعمه وذلك من خلال التقرب إلى المولى عز وجل بالأعمال الصالحة والمواقف الإنسانية الخيرة التي تكسبهم رضى الله وحب عباده وعلى وجه الخصوص الأشقاء والجيران وباعتبار "الاقربون أولى بالمعروف".. ذلك أن من حق الشقيق والجار على شقيقه وجاره أن يقف إلى جانبه ويؤازره ويمد له يد العون والمساعدة إذا رآه محتاجاً وهذا ما علمنا إيّاه ديننا الإسلامي الحنيف وما توجبه مقتضيات الاخوة والجوار.. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: "ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع".. فالتكافل الإنساني والتراحم والعطف سواء كان في الإطار المحلي أو القطري صفة إنسانية حميدة فكيف الحال إذا كان ذلك بين أبناء أمة واحدة تربط فيما بينهم أواصر العقيدة واللغة والدم والتاريخ والمصير المشترك.. ولكن نظرة متأنية إلى واقع الحال العربي والإسلامي تبرز إلى أي مدى تفتقد الأمة إلى مثل ذلك التكافل والتراحم فيما بين أقطارها وشعوبها وما بين أغنيائها وميسوريها وبين فقرائها ومن جار عليهم الزمان بالحاجة والعوز .. وفي الوقت الذي يتسابق أولئك الأغنياء للجود بسخاء بما لديهم للأجنبي الذي يدفعون له طائعين أو مكرهين من خزائن أموالهم وثرواتهم من أجل نيل رضاه عنهم أو درءاً لشروره ضدهم أو ربما لإظهار شهامتهم العربية وكرمهم "الطائي" ولكن في المكان الخطأ .. ولهذا ترى للأسف هؤلاء الأغنياء من أبناء العروبة والإسلام يقومون بإنفاق ملايين الدولارات الأمريكية والجنيهات الإسترلينية لبناء المستشفيات والجامعات والمراكز التعليمية في المدن والعواصم الأمريكية والأوروبية وتجهيزها التجهيز الحديث والمكلف مالياً والتبرع السخي للجمعيات والمنتديات السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى لحدائق الحيوان في لندن وباريس وواشنطن وغيرها من المدن الأوروبية والأمريكية من أجل أن يقال عنهم بأنهم كرماء وإنسانيون في الوقت الذي أشقائهم وجيرانهم من العرب والمسلمين سواء في السودان أو مصر أو الصومال أو موريتانيا أو اليمن أو جيبوتي أو المغرب أو الجزائر وفلسطين أو غيرها من الدول العربية والإسلامية هي أشد حاجة إلى مثل تلك التبرعات وتلك الأموال من أجل بناء مستشفى أو مدرسة أو شق طريق أو تشييد جامعة أو كلية مجتمع أو إقامة مشروع مياه أو كهرباء وغيرها من احتياجات البنى الأساسية وكان يمكن لمال الشقيق والجار الغني قل أم كثر أن يساعد أشقائه وجيرانه في هذه الدولة العربية أو تلك على تلبية بعض احتياجاتهم الضرورية والملحة في التغلب على مشكلاتهم الاقتصادية والتخفيف من معاناتهم أو الحد من فقرهم بدلاً من تبديد تلك الأموال على الأجنبي الذي هو في حقيقة الأمر في غنى عن ذلك السخاء لأثرياء العرب.. ألا يعي هؤلاء الأغنياء الميسورين حقيقة واجبهم الديني والأخوي والإنساني تجاه أشقائهم وجيرانهم المحتاجين بدلاً من تبديد تلك النعمة التي حباهم إياها الله في غير مكانها ومقاصدها الحقيقة ولمن لا يستحقها غالباً؟! .. ولماذا تأخذ هؤلاء العزة بالإثم ليصموا آذانهم وليغمضوا أعينهم عن واجباتهم تجاه أشقائهم وجيرانهم . ألا يدركون ماذا يورث ذلك في النفوس من الأحقاد والضغائن والحسد ومشاعر الاستياء وعدم الرضى؟! .. أليس من واجب هؤلاء أن ينظروا إلى أشقائهم وجيرانهم نظرة التكافل والرحمة والتعاضد وأن يمدوا أيديهم لهم لكي يساعدونهم على تجاوز ظروفهم وواقعهم الاقتصادي الصعب .. أليس هؤلاء الأشقاء والجيران هم الأحق بمال الشقيق وعونه من (غرباء) بعيدين لا يستحقونه.. إن ديننا الإسلامي الحنيف يحثنا على التعاضد والتكافل والتراحم مع إخواننا في الدين والدم وأبناء جلدتنا والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يأمرنا على أن يعطي الغني منا الفقير من ماله ليسد به جوعه أو يتغلب على فقره "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه".. وكيف يمكن الحديث عن الاخوة العربية والإسلامية وعن التضامن العربي والإسلامي إذا كان لا يتراحم أبناء الأمة الواحدة فيما بينهم؟ .. وإذا كان الغني لا يعنيه حال الفقير من الاقربين إليه من أبناء أمته ودينه وهو على الغريب أرحم وأكرم .. فهل الحديث عن الأمة وتضامنها ليس إلا ظاهرة صوتية! وشعارات فارغة المعنى؟.. وهل التعامل بين الأشقاء وبعضهم ليس إلا كتماً للغيظ وتقية ليدرأ بها البعض عن نفسه الشبهات؟ وهل ما يدور في الكواليس ودهاليز السياسة وتحت الطاولات يخالف كل ما يعلن في المنابر وعبر الصحف ووسائل الإعلام عن الإخاء العربي والتضامن بين أبناء الأمة؟! .. ولهذا فإنه ليس بمستغرب أن يكون الواقع العربي اليوم على ذلك الحال البائس من الضعف المهين والشتات المحزن والمذلة المخزية والروح المتنافرة التي وجد فيها الطامعون في الأمة وثرواتها فرصتهم ووسيلتهم لنهب المال العربي والثروة العربية والإسلامية وفرض الذل والمهانة على أبناء الأمة العربية والإسلامية والاستفراد بهم قطراً قطراً وحاكماً حاكماً وممارسة الابتزاز ضدهم من أجل المزيد من النهب للمال العربي والإسلامي وفرض سياستهم وأهدافهم وتحقيق مصالحهم وعلى حساب المصالح العليا لشعوب الأمة.. إن على هؤلاء الأغنياء الإدراك "بأن النعمة تزول" إذا لم تصان بالأعمال الصالحات التي ترضي الله وعباده وتجعل لصاحبها الذكر الطيب والصيت الحسن والجزاء المستحق في الدنيا والآخرة وتزرع له المحبة والشكر في قلوب الناس فكيف إذا كان هؤلاء هم الأقربون الأولى بالمعروف والأحق بالرحمة والعون والمساعدة من غيرهم من (الأجانب) الغرباء .. وصدق الله القائل: "وأما بنعمة ربك فحدث"