أمام بائع القات ، لفت نظري احد المتواجدين بسرعة بديهيته وذلاقة لسانه وملابسه التقليدية وتحدثه بلهجة منطقته ذات المفردات العامية التي كادت تنقرض. وزاد اهتمامي به عندما سمعته يهمس في اذن احد الحضور ان «المقوت» باع نفس كمية القات لزبون قبله بسعر اقل.. وهذا ما استفز بائع القات، فالتفت نحوه معاتباً ومتهماً إياه بالفضول، لكنه تحاشياً لاغضاب البائع، انكر التهمة قائلاً: لست انا انه الزبون الذي مشى الآن، لم يصدقه بائع القات. فبادر وقطع شكه باليقين وقال له: قلت لك لست انا والكاذب يهودي بن يهودي. اقتنع بائع القات ، وعند انصرافنا من الدكان استوقفته وسألته: ما اجبرك على ما قلت؟ هل خشيت المقوت؟ قال: أردت مجاملته حتى «لا يكلدني في الولعة». قلت: ولكن كذبت. قال: لم اكذب.. فقد قلت: الكاذب يهودي. قلت: وهل انت يهودي. قال: وابن يهودي كما سمعت. اعجبت بذكائه وسرعة بديهته ومقدرته على التخلص ومازحته بالقول: ولكني لا ارى عليك زنانير، فرد مبتسماً ألم يقولوا اليهودة في القلوب وليست بالزنانير او بمقدار طولها.. قلت له: صدقت يا... فبادر وقال: اسمي شمعون. قلت صدقت يا شمعون فالزنانير لا علاقة لها بالديانة اليهودية. بل هي مفروضة على اليهود من الحاكم الفاطمي المعز لدين الله ، الذي فرضها على اليهود في مصر ، كما فرض على المسيحيين حمل صلبات خشبية على صدورهم تمييزاً لهم عن غيرهم. لم يوافقني شمعون هذا الرأي .. ولم اجادله وانتقلنا الى موضوع آخر عندما سألته عن رأيه في فتوى الشيخ حسن الترابي واجازته زواج المسلمة بالكتابي يهودياً كان او نصرانياً ،و كذلك ما افتى به احد الزعماء العرب وهو يخطب في جموع المصلين - من المسلمين - الذين ذهبوا للصلاة بعده، ودعا الى حق اليهود والنصارى واصحاب الملل الاخرى ان يدخلوا المسجد الحرام وان يطوفوا بالكعبة المشرفة.. رد علي شمعون بقوله: هذا الامر لا يهمني وامثالي من اليهود اليمنيين. قلت له: ألا يعني لك هذا الامر شيئاً، اجاب بكل تأكيد.. قلت له: هناك من يرى ان في ذلك خطبة لودكم، وقد سمعت احد العلماء او رجال الدين السودانيين في الندوة التي عقدت للرد على حسن الترابي ومناقشة افكاره، وبثتها قناة الجزيرة مباشرة ان حسن الترابي يعرض نفسه على الولاياتالمتحدةالامريكية وعلى اسرائيل ويهود العالم، ويقول لهم بتلك الفتوى : انا رجلكم.. انا الرجل المطلوب لما تريدون.. فما رأيك يا شمعون في ذلك. قال : اشتي اسألك سؤالاً، قلت له: تفضل قال: هل تشك في يمنيتي؟ قلت: انت واخوتك من اليهود اليمنيين من لاشك في يمنيتهم، وانتم المتواجدون والمتمازجون مع هذه التربة من عهد ذو نواس الحميري، ومن قبله، ومتمسكون بديانتكم الى اليوم.. كيف نشك؟ او ننتقص مواطنتكم او ان لكم من الحقوق وعليكم من الواجبات ما لغيركم من اليمنيين. قال شمعون: إذن اسمع جوابي: نحن اليهود اليمنيين لا شأن لنا بمن يقولون انه يخطب ود اليهود او يعرض نفسه على امريكا.. «او يطلع او ينزل او يهرول او يفرمل» وما بقي منا الاّ الناس البسطاء والمتمسكين بحب هذه الارض.. انا شخصياً لا يهمني اتزوج مسلمة ولا اطوف بالكعبة، ومثلما في كتابكم «لكم دينكم ولي دين». قلت له: انت ذكي ومتحدث جيد ومتابع ولكنك تبدو وكأنك بلا اهتمامات ياشمعون، اجاب معي اهتمام واحد .. وهذا هو اهتمام يهود اليمن.. قلت له: وما هو؟ قال: إلقاء القبض على اليهودي يوسف سليمان حبيب الذي قتل الطفل فنحاس وتقديمه للعدالة . حتى نحس ان القانون للجميع .. احنا نخشى هروبه الى خارج اليمن وفراره من وجه العدالة، هل تعلم ان عندنا في التوراة مثلما عندكم في القرآن بالضبط «العين بالعين والسن بالسن..» قلت: هذا مطلب حق ولن تخذلكم العدالة. ثم مازحته قائلاً: يشاع ان صاحبكم القاتل اعتنق الاسلام او ينوي ذلك ..ضحك شمعون وقال: وماتفعلوا بهذا اليهودي؟ لكم الله منه، واذا كل من هاجر الى الاسلام مثل هجرة صاحبنا فقل على الدنيا السلام: قلت له: وان كان قد اسلم فعلاً؟ قال مبتسماً: ارجعوا له كوفيته «لاذمتي هذه» واشار الى عنقه ، ثم قال هل ينقصكم قناصة وقتله؟! .. وتوقف عن الحديث وصعدت زفرة من اعماق صدره. وقال: انا آسف، قلت: بل انا من يتأسف لك ان كنت قد نكشت جرحك على الطفل القتيل فنحاس.. قال: قضية فنحاس امام الله والعدالة والمساواة التي تعيشها اليمن خاطرك.. القات ضمر بين الشمس وشمعة مراعية (نتغدى ونركز بوري) عاد شاسافر الى البلاد.. قلت له: والكذاب يهودي، ضحك وقال: والكذاب ملعون.